قال المصنف رحمه الله تعالى: [إن الله يخرج من النار قوماً من أهل التوحيد بشفاعة الشافعين، وإن الشفاعة حق، والحوض حق، والمعاد حق، -وفي نسخة: والميزان حق- والحساب حق] .
هذه الفقرة تتعلق بالإيمان بما بعد الموت، تتعلق بالإيمان بالبعث وما يكون فيه، وفيها رد على المعتزلة والخوارج، فإنهم ينكرون شفاعة الشافعين، وقد ذكر العلماء أن طوائف المسلمين في الشفاعة على ثلاثة أقوال: قوم أثبتوها مطلقاً، وقوم أثبتوها بشروط، وقوم نفوها.
فالذين نفوا الشفاعة هم الخوارج والمعتزلة، وذلك لأنهم يكفرون الناس بالمعاصي، وعندهم أن من دخل النار من أصحاب الذنوب فإنه يخلد فيها، فالخوارج يكفرونه في الدنيا والآخرة، والمعتزلة يفسقونه في الدنيا ويحكمون بتخليده في الآخرة في النار، وينكرون على هذا شفاعة الشافعين، وينكرون أيضاً الأحاديث التي وردت في الشفاعة مع كثرتها، ويستدلون بمثل قول الله تعالى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة:123] ، وقول الله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254] ، فمثل هذه الآيات فيها نفي الشفاعة، فلذلك قالوا: ليس في الآخرة شفاعة، بل من دخل النار فهو مخلد فيها.
وقد يستدلون بقوله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج:22] ، وقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة:37] على أن من دخل النار فإنه لا يخرج منها، ولا دلالة في الآية، بل الآية فيها نفي الشفاعة التي هي بدون إذن الله، ولأجل ذلك أثبت الله تعالى الشفاعة بشرطين -وعليه قول أهل السنة-: الشرط الأول: الإذن للشافع.
الشرط الثاني: الرضا عن المشفوع.
كما في سورة النجم: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26] يأذن للشافع ويرضى عن المشفوع، وذكر الرضا في سورة طه وفي سورة الأنبياء، قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] ، وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه:109] ، فهذه الآية ذكر فيها الشرطين: {أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه:109] ، وذكر الإذن في آية الكرسي: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ} [البقرة:255] ، وفي آية سورة سبأ: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23] ، فكل هذه أدلة على أن هناك شفاعة، ولكنها لا تكون إلا بعد إذن الله للشافع ورضاه عن المشفوع له، وعلى هذا فإن العبد لا يطلبها إلا من الله، فيقول: يا رب! اجعلني ممن تنفعه شفاعة الشافعين، أسألك أن تُشَفِّع فيِّ أنبياءك ورسلك وملائكتك، أسألك عملاً صالحاً أكون به أهلاً أن يشفع فيّ الشافعون.
وما أشبه ذلك.
ولا تطلب الشفاعة من الإنسان، فلا يقال: يا رسول الله! اشفع لنا.
لا تطلب الشفاعة إلا من الله تعالى؛ لأنه هو الذي يملكها، قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:44] أي: هو الذي يملكها.
وأخبر بأنهم لا تنفعهم الشفاعة يوم القيامة، كما في قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:42-48] .
فالحاصل أن قول أهل السنة: [أن الله يخرج من النار قوماً من أهل التوحيد بشفاعة الشافعين، وإن الشفاعة حق] رد على المعتزلة الذين أنكروها.
كذلك الاعتراف بأن الحوض حق، وقد ورد فيه أكثر من أربعين حديثاً، منها ما جاء في وصفه أنه: (طوله مسيرة شهر، وعرضه مسيرة شهر، آنيته عدد نجوم السماء، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، من شرب منه لم يظمأ بعده أبداً) يرده المؤمنون، ويذاد عنه الكفار، والمعاد يراد به البعث بعد الموت، وسمي معاداً لأن الناس عادوا إليه، كأنهم كانوا في الدنيا ثم عادوا من الدنيا إلى الدار الأخرى.