إذا نظرنا في الأدلة وجدنا أن الله تعالى سمى كثيراً من الأعمال البدنية والمالية إيماناً، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:2-4] ، فهذه خمس خصال: منها ثلاث من الأعمال القلبية، وهي قوله تعالى: (إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) ، وواحدة مِن أعمال البدن وهي إقام الصلاة، وواحدة عبادة مالية وهي: النفقة (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) ، فهذه كلها جعلها الله تعالى من الإيمان.
ومثل ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:15-16] ، فهذه كلها جعلها الله علامة على الإيمان، يعني: إنما المؤمنون حقاً هم الذين يفعلون هذه الأشياء.
فهذا كله دليل على أن هذه الأعمال من الإيمان.
ومثلها قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15] ، جعل هذه كلها من الإيمان، وأشباه ذلك من الآيات، ولا شك أن هذه أدلة على أن الأعمال من مسمى الإيمان.
وقد وردت السنة بذلك، ففي الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول (لا إله إلا الله) ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) ، فانظر كيف ذكر ثلاث خصال: خصلة قولية: (قول لا إله إلا الله) ، وخصلة فعلية: (إماطة الأذى عن الطريق) ، وخصلة قلبية: (والحياء من الإيمان) .
هذه أدلة على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، ولذلك اتفق السلف من أهل السنة على تعريف الإيمان بمثل ما ذكر الإسماعيلي، فقالوا: الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان.
فالقول الذي باللسان يدخل فيه الذكر، والدعاء، والقراءة، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويدخل فيه كل الأعمال القولية التي باللسان.
والاعتقاد بالجنان يدخل فيه الأعمال القلبية، فيدخل فيه الخوف والرجاء والتوكل والرغبة والرهبة والخشوع والخشية والإنابة والحياء إلى آخر أعمال القلوب، وهي كثيرة وكلها من الإيمان.
وكذلك أيضاً الأعمال البدنية كالركوع والسجود، والقيام والقعود، والجهاد والقتال في سبيل الله تعالى، وكذلك الصيام، والطواف بالبيت والوقوف بشعائره، وما أشبه ذلك من الأعمال البدنية كلها داخلة في مسمى الإيمان؛ لأنها من الأعمال المندوبة المأمور بها.
وكذلك أيضاً الأعمال المالية، وإن لم يذكروها في التعريف لدخولها في الأعمال البدنية؛ لأن المال يكتسب غالباً بالبدن، فإذا أنفق في سبيل الله فإن ذلك عمل صالح، فالزكوات والصدقات من الإيمان، والتوسعة على ذوي الحاجات وكفالة الأيتام من الإيمان، والنفقة في وجوه البر كعمارة المساجد ونشر العلم وكل ما يصرف فيه المال بما هو قربة إلى الله تعالى فإنه من الإيمان؛ لكونها أعمالاً صالحةً يحبها الله تعالى.
فلا شك أن الإيمان أصبح بذلك مسمىً شرعياً بعد أن نقله الشرع إلى هذا المسمى، كما أن الشرع نقل الإسلام، فالإسلام في اللغة: الإذعان والانقياد والاستسلام لمن يقود الإنسان.
فنقله الشرع إلى أن أصبح اسماً لأركان الإسلام الظاهرة، وهي الشهادتان والصلاة والزكاة والصوم والحج وما يلحق بها.
وهكذا نقل الإحسان؛ إذ الإحسان في اللغة: اسم لإيصال الخير إلى الغير.
ولكن نقله الشرع وجعله عبادة الله وحده وإصلاح العمل له، (أن تعبد الله كأنك تراه) ، فتصدق الشرع في هذه الكلمات، فيقال -مثلاً-: هذه الكلمات لها تعريف في اللغة وتعريف في الشرع، كما أن أضدادها أيضاً لها تعريف في اللغة وتعريف في الشرع، فالشرك تعريفه في اللغة: الاشتراك بين اثنين في استحقاق.
وتعريفه في الشرع: دعوة غير الله مع الله.
والتوحيد له تعريف في اللغة، وهو: الفرد الواحد.
أي: ذكر شخص واحد مفرد.
وتعريفه في الشرع: إفراد الله تعالى بالعبادة.
وكذلك الفسوق أصله في اللغة: الخروج.
ويطلق في الشرع على العصيان، أي: الخروج عن طاعة الله تعالى.
وكذلك النفاق تعريفه في اللغة: الإخفاء وتعريفه في الشرع: إظهار الإيمان وإخفاء الكفر.
فكذلك نقول: إن هذه اللفظة: -الإيمان- نقلها الشرع وسماها بهذا الاسم.