مسألة الكلام هي من أقدم المسائل الخلافية بين أهل السنة والمبتدعة، حيث أنكر المبتدعة أن الله تعالى متكلم، ثم احتج عليهم بالقرآن فادعوا أنه مخلوق، فعند ذلك طال الخصام والنزاع بينهم وبين أهل السنة في تفنيد شبهاتهم والرد عليهم، واتفقت كلمة المسلمين من أهل السنة والجماعة على أن القرآن كلام الله، وصرحوا بأنه غير مخلوق، بل إنه عين الكلام الذي أتى به جبريل ينسخ حكم كل كتاب، وهو عين كلام الله الذي تكلم به وحياً وسمعه منه رسوله الملكي وبلغه إلى رسوله البشري، وهو على ما هو فيه حكم وأحكام، وأوامر ونواهٍ، وقصص وأمثال، وعبر ومواعظ، ووعد ووعيد، ومحكم ومتشابه، ومطلق ومقيد، كل ذلك كلام الله تعالى.
ثم معلوم أن الله تعالى تكفل بحفظه وتولى ذلك، حفظه الله حتى وصل إلينا كما هو، نحفظه في الصدور، ونكتبه في السطور، ولا يخرج بذلك عن كونه كلام الله حروفه ومعانيه، فنرد على المعتزلة الذين قالوا: إنه مخلوق بأن الله تعالى سماه كلامه في قوله تعالى: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ} [البقرة:75] ، ومعلوم أنهم يسمعونه من القراء، يسمعونه من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وقراءة الصحابة، ومع ذلك لم يخرج عن كونه كلام الله، وكذلك قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ، ومعلوم أنه لا يسمعه إلا من القراء، لا يسمعه من الملك ولا من الرب تعالى، بل بواسطة القراء، وكذلك قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ} [الفتح:15] .
وقد أثبت الله تعالى لنفسه القول في عدة آيات، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} [الأحزاب:4] ، {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:119] ، {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} [المائدة:115] فالقول لا شك أنه هو الكلام.
كذلك يرد على الأشاعرة الذين يدعون أن هذا القرآن عبارة أو حكاية عن كلام الله، وأنه ليس هو كلام الله عيناً، وذلك لأنهم اعتقدوا أن الله تعالى لا يتكلم بمثل هذه الحروف، وقالوا: كلام الله هو المعاني دون الألفاظ.
وشبهتهم بيت ينشدونه كثيراً، وهو قول القائل: إن الكلام لفي الفوائد وإنما جعل اللسان على الفوائد دليلاً يرددون هذا البيت ويقولون: هذا قول الشاعر العربي، والشاعر العربي يجعل الكلام هو المعنى لا أنه هو اللفظ.
وقد بحث العلماء عن هذا الشاعر فقالوا: إنه الأخطل فنظرنا فإذا البيت لم يوجد في ديوانه المشهور، ثم رواه بعضهم: (إن البيان لفي الفؤاد) ، وهذا أقرب على تقدير ثبوته عن الأخطل، ثم نظرنا فإذا هذا الشاعر نصراني لم يدخل في الإسلام، تمسك بنصرانيته ولو كان من العرب من بني تغلب، والنصارى قد ضلوا في معنى الكلام، حيث اعتقدوا أن عيسى هو نفس الكلمة، فعلى هذا يكون هذا الشاعر تكلم به على معتقده الباطل، فلا يكون حجة.
هذا هو دليل هؤلاء الأشاعرة، يقبلون هذا البيت ويعتمدونه في الكلام الذي هو أوضح شيء، فيقولون: إن الكلام هو المعاني، وأما الحروف التي تسمع فليست كلاماً.
وهذا مخالفة للحس ومخالفة للظاهر؛ إذ العرب لا يسمون الساكت متكلماً، وما دام ساكتاً فلا ينسب إليه كلام ولو حدث نفسه، ولو تصور في قلبه أشياء.
فالكلام هو ما ينطق به، هذا هو الصحيح، وعلى هذا فالقرآن الذي هو كلام الله هو عين الحروف والكلمات الموجودة، والآيات والسور هي عين كلام الله، وهي التي ذكرها الله تعالى للمشركين وتحداهم بها في قوله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [الطور:34] ، ومعلوم أن المراد بـ (مثله) هي هذه الحروف، وفي قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء:88] ، فليس المراد المعاني بل الألفاظ والحروف، وهو الذي قال المشركون فيه: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] يريدون به هذا القرآن الذي هو حروف وكلمات، فبطل بذلك دعوى هؤلاء الذين يقولون: إن الكلام هو المعنى دون اللفظ.
والسلف رحمهم الله بدعوا وشنعوا على من يقول: إنه مخلوق.
وجعلوهم جهمية معتزلة مبتدعة منكرين لصفة من صفات الله تعالى.
ثم جاءتنا -أيضاً- عبارة قد ترد في بعض كلامهم، وهي قولهم: لفظي بالقرآن مخلوق.
وهذه العبارة محتملة، فلأجل ذلك نهى عنها السلف رحمهم الله، وشددوا في النهي عن استعمالها، وبدعوا من يقول: لفظي بالقرآن مخلوق.
لأنه إذا قال: لفظي بالقرآن مخلوق فإنه يحتمل معنيين: يحتمل أن يريد باللفظ الملفوظ، ويحتمل: أن يريد باللفظ الحركات، فمعلوم أن حركات الإنسان مخلوقة، حركات فمه، وحركات شفتيه، وحركات لسانه، وحركات قصبته الهوائية، وحركات نفسه مخلوقة، فالإنسان بحركاته وبأفعاله مخلوق، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] .
فإذا قصد الإنسان أن حركاته مخلوقة فإنه صحيح، وعلى هذا بين العلماء أن أفعال العباد مخلوقة.
أما إذا كان يريد باللفظ الملفوظ فإن القرآن كلام الله ولو تلفظ به من تلفظ به، فهو كلام الله أينما قرئ وأينما تلي وأينما نسخ، عبر شيخ الإسلام ابن تيمية في الواسطية بقوله: إن الكلام إنما ينسب إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً.
عبارة واضحة، ولأجل ذلك نقول: إذا سمعنا من يقول مثلاً: (إنما الأعمال بالنيات) قلنا: هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
وإذا سمعنا من يتكلم بقوله: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) قلنا: هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الذي ابتدأه.
فكذلك إذا سمعنا من يقول -مثلاً-: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة:142] قلنا: هذا كلام الله.
فهو الذي تكلم به ابتداءً، وإذا جاء في القرآن حكاية لكلام غير الله فإننا ننسبه إلى أنه كلام الله، فنقول مثلاً: قال الله تعالى عن فرعون: {فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] ، وقال الله عن إبليس: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82] ، وقال الله عن نوح: {رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا} [نوح:21] ، وقال الله عن موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص:16] ، أي: حكى الله تعالى قول موسى، فيكون القول لموسى ولكن بعدما حكاه الله تعالى في القرآن أصبح من كلام الله.
فعبارة السلف رحمهم الله إذا أرادوا التعبير الواضح يقولون: القول قول الباري والصوت صوت القاري.
فيقال: استمعوا للقرآن بصوت القارئ فلان بن فلان.
فصوت القارئ وحركاته لا شك أنه مخلوق، وأما نفس المقروء الذي هو كلام الله فإنه ليس بمخلوق.