«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ» ، بِمَعْنَى: ذَلِيلَةٌ. قَالَ أَبُو السُّعُودِ: هَذَا وَمَا بَعْدَهُ وَقَعَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ، نَشَأَ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ التَّشْوِيقِيِّ الْمُتَقَدِّمِ، كَأَنَّهُ قِيلَ مِنْ جَانِبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أَتَانِي حَدِيثُهَا» ، فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى. فَقَالَ: «وُجُوهٌ» إِلَخْ.

قَالَ: وَلَا بَأْسَ بِتَنْكِيرِهَا ; لِأَنَّهَا فِي مَوْقِعِ التَّنْوِيعِ، أَيْ: سَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِالنَّكِرَةِ كَوْنُهَا فِي مَوْقِعِ التَّنْوِيعِ: وُجُوهٌ كَذَا، وَوُجُوهٌ كَذَا.

وَخَاشِعَةٌ: خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، أَيْ: وَمَا بَعْدَهُ مِنْ صِفَاتِهِمْ.

وَقَوْلُهُ: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ الْعَمَلُ مَعْرُوفٌ، وَالنَّصَبُ: التَّعَبُ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي زَمَنِ الْعَمَلِ وَالنَّصَبِ هَذَيْنِ: هَلْ هُوَ كَانَ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا أَمْ هُوَ وَاقِعٌ مِنْهُمْ فِعْلًا فِي الْآخِرَةِ؟ وَمَا هُوَ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ: فَالَّذِينَ قَالُوا: هُوَ كَانَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: عَمَلٌ وَنَصَبٌ فِي الْعِبَادَاتِ الْفَاسِدَةِ: كَعَمَلِ الرُّهْبَانِ وَالْقِسِّيسِينَ وَالْمُبْتَدَعَةِ الضَّالِّينَ، فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ: كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [25 \ 23] .

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: عَمِلَ وَنَصَبَ وَالْتَذَّ، فِيمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ، فَعَامَلَهُ اللَّهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْوَجْهَ ضَعْفُهُ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ مَنْ هَذِهِ حَالُهُمْ لَا يُعَدُّونَ فِي عَمَلٍ وَنَصَبٍ، بَلْ فِي مُتْعَةٍ وَلَذَّةٍ.

وَالَّذِينَ قَالُوا: سَيَقَعُ مِنْهُمْ بِالْفِعْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ عَمَلٌ وَنَصَبٌ فِي النَّارِ مِنْ جَرِّ السَّلَاسِلِ، عِيَاذًا بِاللَّهِ، وَصُعُودِهِمْ وَهُبُوطِهِمُ الْوِهَادَ وَالْوِدْيَانَ، أَيْ: كَمَا فِي قَوْلِهِ: سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا [74 \ 17] ، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا [72 \ 17] .

وَقَدْ ذَكَرَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ تَقْسِيمًا ثُلَاثِيًّا، فَقَالَ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي الدُّنْيَا أَوْ كُلُّهُ فِي الْآخِرَةِ، أَوْ بَعْضُهُ فِي الدُّنْيَا وَبَعْضُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَمْ يُرَجِّحْ قِسْمًا مِنْهَا إِلَّا أَنَّ وَجْهَ الْقَوْلِ: بِأَنَّهَا فِي الدُّنْيَا وَهِيَ فِي الْقِسِّيسِينَ وَنَحْوِهِمْ. فَقَالَ: لَمَّا نَصَبُوا فِي عِبَادَةِ إِلَهٍ وَصَفُوهُ بِمَا لَيْسَ مُتَّصِفًا بِهِ، وَإِنَّمَا تَخَيَّلُوهُ تَخَيُّلًا، أَيْ بِقَوْلِهِمْ: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ [5 \ 73] ، وَقَوْلِهِمْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [9 \ 30] ، فَكَانَتْ عِبَادَتُهُمْ لِتِلْكَ الذَّاتِ الْمُتَخَيَّلَةِ لَا لِحَقِيقَةِ الْإِلَهِ سُبْحَانَهُ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015