بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ بِقَدْرٍ وَاحِدٍ، فَاضْطِرَارٌ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ وَسَطَ السَّمَاءِ. اهـ. بِلَفْظِهِ.
فَهَذَا نَقْلٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، مِنْ إِمَامٍ جَلِيلٍ فِي عِلْمَيِ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ، عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ عَلَى شَكْلِ الْكُرَةِ، وَقَدْ سَاقَ الْأَدِلَّةَ الِاضْطِرَارِيَّةَ مِنْ حَرَكَةِ الْأَفْلَاكِ عَلَى ذَلِكَ.
وَمِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ أَيْضًا يُقَالُ: إِنَّ أَكْمَلَ الْأَجْرَامِ هُوَ الْمُسْتَدِيرُ كَمَا قَالَ فِي قَوْلِهِ: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ [67 \ 3] .
وَعَلَيْهِ، فَلَوْ قُدِّرَ لِسَائِرٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَافْتَرَضْنَا الْأَرْضَ مُسَطَّحَةً كَسَطْحِ الْبَيْتِ أَوِ الْقِرْطَاسِ مَثَلًا، لَكَانَ لِهَذَا السَّائِرِ مِنْ نِهَايَةٍ يَنْتَهِي إِلَيْهَا، وَهِيَ مُنْتَهَى التَّسْطِيحِ أَوْ يَسْقُطُ فِي هَاوِيَةٍ، وَبِاعْتِبَارِهَا كُرَةً، فَإِنَّهُ يُكْمِلُ دَوْرَتَهُ، وَيُكَرِّرُهَا وَلَوْ سَارَ طِيلَةَ عُمُرِهِ لَمَا كَانَ لِمَسِيرِهِ مُنْتَهًى، لِأَنَّهُ يَدُورُ عَلَى سَطْحِهَا مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
تَنْبِيهٌ.
كَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ نُقَدِّمَ هَذِهِ النَّتِيجَةَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ مَا دَامَتْ مُتَّفِقَةً فِي النِّهَايَةِ مَعَ قَوْلِ عُلَمَاءِ الْهَيْئَةِ، وَلَا نُطِيلُ النُّقُولَ مِنْ هُنَا وَهُنَاكَ، وَلَكِنْ قَدْ سُقْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ لِغَرَضٍ أَعَمَّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، وَقَضِيَّةٍ أَشْمَلَ وَهِيَ مِنْ جِهَتَيْنِ:
أُولَاهُمَا: أَنَّ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ مُدْرِكُونَ مَا قَالَ بِهِ عُلَمَاءُ الْهَيْئَةِ، وَلَكِنْ لَا مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ أَوْ دَلَالَةٍ خَاصَّةٍ عَلَى هَذِهِ الْجُزْئِيَّةِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَلَكِنْ عَنْ طَرِيقِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ ; إِذْ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَجْهَلُوا هَذِهِ النَّظَرِيَّةَ، وَلَمْ تَخْفَ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْحَقِيقَةُ.
ثَانِيَتُهُمَا: مَعَ عِلْمِهِمْ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَإِدْرَاكِهِمْ لِهَذِهِ النَّظَرِيَّةِ، لَمْ يَعْزُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ دَلَالَتَهَا لِنُصُوصِ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ.
وَبِنَاءً عَلَيْهِ نَقُولُ: إِذَا لَمْ تَكُنِ النُّصُوصُ صَرِيحَةً فِي نَظَرِيَّةٍ مِنَ النَّظَرِياتِ الْحَدِيثَةِ، لَا يَنْبَغِي أَنْ نُقْحِمَهَا فِي مَبَاحِثِهَا نَفْيًا أَوْ إِثْبَاتًا، وَإِنَّمَا نَتَطَلَّبُ الْعِلْمَ مِنْ طَرِيقِهِ، فَعُلُومُ الْهَيْئَةِ مِنَ النَّظَرِ الِاسْتِدْلَالُ، وَعُلُومُ الطِّبِّ مِنَ التَّجَارِبِ وَالِاسْتِقْرَاءِ، وَهَكَذَا يَبْقَى الْقُرْآنُ مُصَانًا عَنْ مَجَالِ الْجَدَلِ فِي نَظَرِيَّةٍ قَابِلَةٍ لِلثُّبُوتِ وَالنَّفْيِ، أَوِ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، كَمَا لَا يَنْبَغِي لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ حَقِيقَةَ أَمْرٍ فِي فَنِّهِ أَنْ يُبَادِرَ بِإِنْكَارِهَا مَا لَمْ تَكُنْ مُصَادِمَةً لِنَصٍّ صَرِيحٍ