تَنْبِيهٌ آخَرُ.
إِنَّ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ: أَنَّ لِلْمَسْجِدِ فِي الْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ رِسَالَةً عُظْمَى، أَلْزَمَ مَا يَكُونُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِحْيَاؤُهَا: وَهِيَ أَنَّ الْمَسْجِدَ لَهُمْ هُوَ بَيْتُ الْأُمَّةِ فِيهِمْ، لِجَمِيعِ مَصَالِحِهِمُ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ تَقْرِيبًا مِمَّا يَصْلُحُ لَهُ، فَكَأَنَّ الْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ فِي أَوَّلِ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ الْمِثَالُ لِذَلِكَ.
إِذْ كَانَ الْمُصَلَّى الَّذِي تَتَضَاعَفُ فِيهِ الصَّلَاةُ، وَكَانَ الْمَعْهَدَ لِتَلَقِّي الْعِلْمِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمِنْ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمِنَ الْأَئِمَّةِ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا يَزَالُ - بِحَمْدِ اللَّهِ - كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يُوشِكُ أَنْ يَضْرِبَ النَّاسُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ فَلَا يَجِدُونَ عَالِمًا كَعَالِمِ الْمَدِينَةِ» .
وَكَمَا قَالَ: «مَنْ رَاحَ إِلَى مَسْجِدِي لِعِلْمٍ يَتَعَلَّمُهُ أَوْ يُعَلِّمُهُ كَانَ كَمَنْ غَزَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، وَكَانَ فِيهِ تَعْلِيمُ الصِّبْيَانِ لِلْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ، وَكَانَ وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ - بِحَمْدِ اللَّهِ -، وَكَانَ مَقَرًّا لِلْإِفْتَاءِ، وَمَجْلِسًا لِلْقَضَاءِ، وَمَقَرًّا لِلضِّيَافَةِ، وَمَنْزِلًا لِلْأَسَارَى، وَمَصَحًّا لِلْجَرْحَى.
وَقَدْ ضُرِبَتْ لِسَعْدٍ فِيهِ قُبَّةٌ لَمَّا أَصَابَهُ سَهْمٌ لِيَعُودَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَرِيبٍ، وَمَقَرًّا لِلْقِيَادَةِ، فَتُعْقَدُ فِيهِ أَلْوِيَةُ الْجِهَادِ، وَتُبْرَمُ فِيهِ مُعَاهَدَاتُ الصُّلْحِ، وَمَنْزِلًا لِلْوُفُودِ: كَوَفْدِ تَمِيمٍ وَعَبْدِ الْقَيْسِ، وَبَيْتًا لِلْمَالِ: كَمَجِيءِ مَالِ الْبَحْرَيْنِ وَحِرَاسَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَهُ.
وَلَمَّا نُقِبَ بَيْتُ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِعَامِلِهِ هُنَاكَ: انْقُلْهُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَزَالُ الْمَسْجِدُ فِيهِ مُصَلِّي، أَيْ: لِيَتَوَلَّى حِرَاسَتَهُ وَمَقِيلًا لِلْعُزَّابِ وَمَبِيتًا لِلْغُرَبَاءِ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُوجَدُ فِي أَيِّ مُؤَسَّسَةٍ أُخْرَى. وَلَا تَتَأَتَّى إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ، مِمَّا يُؤَكِّدُ رِسَالَةَ الْمَسْجِدِ، وَيَسْتَدْعِي الِانْتِبَاهَ إِلَيْهِ وَحُسْنَ الِاسْتِفَادَةِ مِنْهُ.
وَبِمُنَاسَبَةِ اخْتِصَاصِ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الْأَرْبَعَةِ بِمَزِيدِ الْفَضْلِ وَزِيَادَةِ مُضَاعَفَةِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ خَاصَّةً عِدَّةَ مَبَاحِثَ طَالَمَا أُشِيرَ إِلَيْهَا فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ وَهِيَ مِنَ الْأَهَمِّيَّةِ بِمَكَانٍ، وَأَهَمُّهَا أَرْبَعَةُ مَبَاحِثَ نُورِدُهَا بِإِيجَازٍ، وَهِيَ:
الْأَوَّلُ: مُضَاعَفَةُ الصَّلَاةِ بِأَلْفٍ. وَهَلْ هِيَ خَاصَّةٌ بِمَسْجِدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي كَانَ مِنْ بِنَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَمْ يَشْمَلُ ذَلِكَ مَا دَخَلَهُ مِنْ زِيَادَاتٍ.
وَكَذَلِكَ امْتِدَادُ الصُّفُوفِ خَارِجَهُ عَنِ الزَّحْمَةِ، وَهَلْ هِيَ فِي الْفَرْضِ فَقَطْ أَمْ فِيهِ وَفِي النَّفْلِ؟ ، وَهَلْ هِيَ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ أَمْ لِلرِّجَالِ فَقَطْ؟ .