وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَالَ فِي الْمُغْنِي، مَا نَصُّهُ:
فَصْلٌ: فَأَمَّا الِاسْتِيطَانُ فَهُوَ شَرْطٌ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ الِاسْتِيطَانُ فِي قَرْيَةٍ عَلَى الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا صَيْفًا وَلَا شِتَاءً، وَلَا تَجِبُ عَلَى مُسَافِرٍ، وَلَا عَلَى مُقِيمٍ فِي قَرْيَةٍ يَظْعَنُ أَهْلُهَا عَنْهَا فِي الشِّتَاءِ دُونَ الصَّيْفِ، أَوْ فِي بَعْضِ السَّنَةِ.
فَإِنْ خَرِبَتِ الْقَرْيَةُ أَوْ بَعْضُهَا وَأَهْلُهَا مُقِيمُونَ فِيهَا عَازِمُونَ عَلَى إِصْلَاحِهَا فَحُكْمُهَا بَاقٍ فِي إِقَامَةِ الْجُمُعَةِ بِهَا وَإِنْ عَزَمُوا عَلَى النُّقْلَةِ عَنْهَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ لِعَدَمِ الِاسْتِيطَانِ.
هَذِهِ خُلَاصَةُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ مُتَّفِقَةٌ عَلَى اشْتِرَاطِ الْوَطَنِ وَالِاسْتِيطَانِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فِي صِفَةِ الْوَطَنِ مِنْ مِصْرٍ أَوْ قَرْيَةٍ أَوْ نَحْوِهَا مَبْنِيَّةٍ بِحَجَرٍ أَوْ طِينٍ، أَوْ أَخْشَابٍ، أَوْ خِيَامٍ ثَابِتَةٍ صَيْفًا وَشِتَاءٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَقَدِ انْفَرَدَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَعَهُ صَاحِبُهُ أَبُو يُوسُفَ بِاشْتِرَاطِ وُجُودِ الْأَمِيرِ وَالْقَاضِي الَّذِي يُقِيمُ الْحُدُودَ احْتِرَازًا مِنَ الْقَاضِي الَّذِي لَا يُقِيمُ الْحُدُودَ، كَقَاضِي السُّوقِ، أَوْ إِذَا كَانَ مَنْ يَلِي الْقَضَاءَ امْرَأَةً عَلَى مَذْهَبِهِ فِي ذَلِكَ وَهِيَ لَا تَقْضِي فِي الْحُدُودِ لِعَدَمِ جَوَازِ شَهَادَتِهَا فِيهَا، وَاكْتَفَى الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ بِمُطْلَقِ الِاسْتِيطَانِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْتِيطَانَ يَسْتَلْزِمُ الْإِمَارَةَ شَرْعًا وَعَقْلًا.
أَمَّا شَرْعًا، فَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ لَا يُؤَمِّرُونَ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا إِلَّا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ» .
وَعَقْلًا، فَإِنَّ مُسْتَوْطِنِينَ لَا تَسْلَمُ أَحْوَالُهُمْ مِنْ خِلَافَاتٍ، وَمُشَاحَّةٍ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَلَا بُدَّ مِنْ شَخْصٍ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الْأَمِيرِ الْمَطْلُوبِ، كَمَا أَنَّ الِاسْتِيطَانَ يَسْتَلْزِمُ السُّوقَ لِحَوَائِجِهِمْ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عُرْفًا.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ بَعْدَ جُمُعَةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْبَحْرَيْنِ يُقَالُ لَهَا جُوَاثَى، وَبِحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّهُ جَمَّعَ بِهِمْ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ مَجِئِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَزْمٍ مِنْ حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ يُقَالُ لَهُ: نَقِيعُ الْخَضَمَاتِ، مِمَّا لَا يَسْتَلْزِمُ الْمِصْرَ الَّذِي اشْتَرَطَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.