وَلَيْسَ بِيَدِ الْحَاكِمِ إِلَّا تَقْلِيدُ الشَّاهِدِ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ بِيَدِ الْعَامِّيِّ إِلَّا تَقْلِيدُ الْعَالِمِ، فَمَا الَّذِي سَوَّغَ لَكَ تَقْلِيدَ الرَّاوِي وَالشَّاهِدِ، وَمَنَعَنَا مِنْ تَقْلِيدِ الْعَالِمِ، وَهَذَا سَمِعَ بِأُذُنِهِ مَا رَوَاهُ، وَهَذَا عَقَلَ بِقَلْبِهِ مَا سَمِعَهُ فَأَدَّى هَذَا مَسْمُوعَهُ، وَأَدَّى هَذَا مَعْقُولَهُ.

وَفَرَضَ عَلَى هَذَا تَأْدِيَةَ مَا سَمِعَهُ، وَعَلَى هَذَا تَأْدِيَةَ مَا عَقَلَهُ، وَعَلَى مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مَنْزِلَتَهُمَا الْقَبُولَ مِنْهُمَا.

ثُمَّ يُقَالُ لِلْمَانِعِينَ مِنَ التَّقْلِيدِ: أَنْتُمْ مَنَعْتُمُوهُ خَشْيَةَ وُقُوعِ الْمُقَلِّدِ فِي الْخَطَأِ، بِأَنْ يَكُونَ مُقَلِّدُهُ مُخْطِئًا فِي فَتْوَاهُ، ثُمَّ أَوْجَبْتُمْ عَلَيْهِ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ صَوَابَهُ فِي تَقْلِيدِهِ لِلْعَالِمِ أَقْرَبُ مِنْ صَوَابِهِ فِي اجْتِهَادِهِ هُوَ لِنَفْسِهِ.

وَهَذَا كَمَنْ أَرَادَ شِرَاءَ سِلْعَةٍ لَا خِبْرَةَ لَهُ بِهَا، فَإِنَّهُ إِذَا قَلَّدَ عَالِمًا بِتِلْكَ السِّلْعَةِ خَبِيرًا بِهَا أَمِينًا نَاصِحًا كَانَ صَوَابُهُ وَحُصُولُ غَرَضِهِ أَقْرَبَ مِنِ اجْتِهَادِهِ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ اهـ.

هَذَا هُوَ غَايَةُ مَا يَحْتَجُّ بِهِ الْمُقَلِّدُونَ، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ، وَبَيَّنَ بُطْلَانَهُ مِنْ وَاحِدٍ وَثَمَانِينَ وَجْهًا.

وَسَنَذْكُرُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ جُمَلًا مُخْتَصَرَةً مِنْ كَلَامِهِ الطَّوِيلِ تَكْفِي الْمُنْصِفَ، وَتَزِيدُ الْمَسْأَلَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِيضَاحًا وَإِقْنَاعًا.

قَالَ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ بَعْدَ ذِكْرِهِ حُجَجَ الْمُقَلِّدِينَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا مَا نَصُّهُ: قَالَ أَصْحَابُ الْحُجَّةِ: عَجَبًا لَكُمْ مُعَاشِرَ الْمُقَلِّدِينَ، الشَّاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَعَ شَهَادَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ أَهْلِهِ، وَلَا مَعْدُودِينَ فِي زُمْرَةِ أَهْلِهِ، كَيْفَ أَبْطَلْتُمْ مَذْهَبَكُمْ، بِنَفْسِ دَلِيلِكُمْ، فَمَا لِلْمُقَلِّدِ وَمَا لِلِاسْتِدْلَالِ؟ وَأَيْنَ مَنْصِبُ الْمُقَلِّدِ مِنْ مَنْصِبِ الْمُسْتَدِلِّ؟

وَهَلْ مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ إِلَّا ثِيَابًا اسْتَعَرْتُمُوهَا، مِنْ صَاحِبِ الْحُجَّةِ فَتَجَمَّلْتُمْ بِهَا بَيْنَ النَّاسِ، وَكُنْتُمْ فِي ذَلِكَ مُتَشَبِّهِينَ بِمَا لَمْ تُعْطَوْهُ، نَاطِقِينَ مِنَ الْعِلْمِ بِمَا شَهِدْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنَّكُمْ لَمْ تُؤْتَوْهُ، وَذَلِكَ ثَوْبُ زُورٍ لَبِسْتُمُوهُ، وَمَنْصِبٌ لَسْتُمْ مِنَ أَهْلِهِ غَصَبْتُمُوهُ.

فَأَخْبِرُونَا: هَلْ صِرْتُمْ إِلَى التَّقْلِيدِ لِدَلِيلٍ قَادَكُمْ إِلَيْهِ، وَبُرْهَانٍ دَلَّكُمْ عَلَيْهِ، فَنَزَلْتُمْ بِهِ مِنَ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015