تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [48 \ 16] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَاعْلَمْ: أَنَّ لِبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَقْوَالًا غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا، وَلَكِنَّ هَذَا التَّدْرِيجَ الَّذِي ذَكَرْنَا دَلَّ عَلَيْهِ اسْتِقْرَاءُ الْقُرْآنِ فِي تَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّاقَّةِ، وَنَظِيرُهُ شُرْبُ الْخَمْرِ فَإِنَّ تَرْكَهُ شَاقٌّ عَلَى مَنِ اعْتَادَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُحَرِّمَ الْخَمْرَ حَرَّمَهَا تَدْرِيجًا، فَذَكَرَ أَوَّلًا بَعْضَ مَعَائِبِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [2 \ 219] ثُمَّ لَمَّا اسْتَأْنَسَتْ نُفُوسُهُمْ بِأَنَّ فِي الْخَمْرِ إِثْمًا أَكْثَرَ مِمَّا فِيهَا مِنَ النَّفْعِ، حَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى الْآيَةَ [4 \ 43] ، فَكَانُوا بَعْدَ نُزُولِهَا، لَا يَشْرَبُونَهَا إِلَّا فِي وَقْتٍ يَزُولُ فِيهِ السُّكْرُ قَبْلَ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ ; لِأَنَّ مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ يَصْحُو فِيهِ السَّكْرَانُ عَادَةً، وَكَذَلِكَ مَا بَيْنَ الصُّبْحِ وَالظُّهْرِ، وَهَذَا تَدْرِيجٌ مِنْ عَيْبِهَا إِلَى تَحْرِيمِهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَلَمَّا اسْتَأْنَسَتْ نُفُوسُهُمْ بِتَحْرِيمِهَا حَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ تَحْرِيمًا عَامًّا جَازِمًا بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِلَى قَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [5 \ 90 - 91] وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْإِمْسَاكُ عَنْ شَهْوَةِ الْفَرْجِ وَالْبَطْنِ شَاقًّا عَلَى النُّفُوسِ، وَأَرَادَ تَعَالَى تَشْرِيعَهُ شَرَّعَهُ تَدْرِيجًا فَخَيَّرَ أَوَّلًا بَيْنَ صَوْمِ الْيَوْمِ وَإِطْعَامِ الْمِسْكِينِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [2 \ 184] فَلَمَّا اسْتَأْنَسَتِ النُّفُوسُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ، أَوْجَبَهُ أَيْضًا إِيجَابًا عَامًّا جَازِمًا بِقَوْلِهِ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ الْآيَةَ [2 \ 185] وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: التَّدْرِيجُ فِي تَشْرِيعِ الصَّوْمِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَرَاحِلَ كَمَا قَبْلَهُ قَالُوا: أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا صَوْمًا خَفِيفًا لَا مَشَقَّةَ فِيهِ وَهُوَ صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، ثُمَّ لَمَّا أَرَادَ فَرْضَ صَوْمِ رَمَضَانَ شَرَّعَهُ تَدْرِيجًا عَلَى الْمَرْحَلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا آنِفًا، هَكَذَا قَالَتْهُ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَهُ اتِّجَاهٌ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ يُشِيرُ إِلَى مَعْنَيَيْنِ.

أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِيهِ الْإِشَارَةَ إِلَى وَعْدِهِ لِلنَّبِيِّ وَأَصْحَابِهِ، بِالنَّصْرِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ كَمَا قَالَ قَبْلَهُ قَرِيبًا: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [22 \ 38] .

وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَنْصُرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015