وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ بِمَحَلٍّ لَا تُقَامُ فِيهِ صَلَاةُ الْعِيدِ، أَنَّهُ يَتَحَرَّى بِذَبْحِ أُضْحِيَّتِهِ قَدْرَ مَا يُصَلِّي فِيهِ الْإِمَامُ صَلَاةَ الْعِيدِ عَادَةً، ثُمَّ يَذْبَحُ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ إِجْزَاءِ مَا نُحِرَ قَبْلَ نَحْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَظَاهِرُهُ: أَنَّهُ لَا بُدَّ لِإِجْزَاءِ الْأُضْحِيَّةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَبَعْدَ نَحْرِ الْإِمَامِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْفَرْعُ الثَّالِثُ: فِي سِنِّ الْأُضْحِيَّةِ الَّتِي تُجْزِئُ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ السِّنَّ الَّتِي تُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَّةِ هِيَ الَّتِي تَكُونُ مُسِنَّةً، فَإِنْ تَعَسَّرَتِ الْمُسِنَّةُ أَجْزَأَتْهُ جَذَعَةٌ مِنَ الضَّأْنِ.
قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً إِلَّا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ» اهـ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا نَصُّهُ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْمُسِنَّةُ هِيَ الثَّنِيَةُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، فَمَا فَوْقَهَا. وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَذَعُ مِنْ غَيْرِ الضَّأْنِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ عَلَى مَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ، وَنَقَلَ الْعَبْدَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يُجْزِئُ الْجَذَعُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْمَعْزِ وَالضَّأْنِ. وَحُكِيَ هَذَا عَنْ عَطَاءٍ. وَأَمَّا الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ فَمَذْهَبُنَا، وَمَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً: أَنَّهُ يُجْزِئُ سَوَاءً وُجِدَ غَيْرُهُ أَوْ لَا، وَحَكَوْا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَالزُّهْرِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا: لَا يُجْزِئُ. وَقَدْ يُحْتَجُّ لَهُمَا بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ. قَالَ الْجُمْهُورُ: هَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالْأَفْضَلِ، وَتَقْدِيرُهُ: يُسْتَحَبُّ لَكُمْ أَنْ لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً، فَإِنْ عَجَزْتُمْ فَجَذَعَةُ ضَأْنٍ، وَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِمَنْعِ جَذَعَةِ الضَّأْنِ، وَأَنَّهَا لَا تُجْزِئُ بِحَالٍ. وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ ; لِأَنَّ الْجُمْهُورَ يُجَوِّزُونَ الْجَذَعَ مِنَ الضَّأْنِ، مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ وَعَدَمِهِ. وَابْنُ عُمَرَ وَالزُّهْرِيُّ يَمْنَعَانِهِ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ وَعَدَمِهِ، فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاسْتِحْبَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. إِلَى أَنْ قَالَ: وَالْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ: مَا لَهُ سَنَةٌ تَامَّةٌ، هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ الْأَشْهَرُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَقِيلَ: مَا لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ.
وَقِيلَ: سَبْعَةٌ، وَقِيلَ: ثَمَانِيَةٌ، وَقِيلَ: ابْنُ عَشَرَةٍ. حَكَاهُ الْقَاضِي، وَهُوَ غَرِيبٌ.
وَقِيلَ: إِنْ كَانَ مُتَوَلِّدًا مِنْ بَيْنِ شَابَّيْنِ، فَسِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ هَرِمَيْنِ فَثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَقَالَ فِي «شَرْحِ الْمُهَذَّبِ» : ثُمَّ الْجَذَعُ مَا اسْتَكْمَلَ سَنَةً عَلَى