سُفْيَانَ الْبَجَلِيِّ، مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ بِالْإِعَادَةِ، وَأَمَرَ مَنْ لَمْ يَذْبَحْ بِالذَّبْحِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا دَلَالَةَ الْأَمْرِ عَلَى الْوُجُوبِ وَالْحَدِيثَ الْمُخْتَلَفَ فِي وَقْفِهِ وَرَفْعِهِ الَّذِي قَدَّمْنَا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ فِيهِ: " فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا "، يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ تَرْكَ الْأُضْحِيَّةِ مُخَالَفَةٌ غَيْرُ هَيِّنَةٍ، لِمَنْعِ صَاحِبِهَا مِنْ قُرْبِ الْمُصَلَّى وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا أَعْلَمُ لَهُ مُسْتَنَدًا مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ يُوَجِّهُهُ بِأَنَّ أَدَاءَهَا لَهُ أَسْبَابٌ تَشُقُّ عَلَى الْمُسَافِرِ، وَهَذَا وَحْدَهُ لَا يَكْفِي دَلِيلًا ; لِأَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ وَاجِبٍ عَجَزَ عَنْهُ الْمُكَلَّفُ، يَسْقُطُ عَنْهُ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [2 \ 286] .
وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: بِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، فَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا: مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يُحَدِّثُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَمَسُّ مِنْ شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا "، قِيلَ لِسُفْيَانَ: فَإِنَّ بَعْضَهُمْ لَا يَرْفَعُهُ. قَالَ: لَكِنِّي أَرْفَعُهُ اهـ وَفِي لَفْظٍ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ مُسْلِمٍ: " إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ وَعِنْدَهُ أُضْحِيَّةٌ يُرِيدُ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَأْخُذَنَّ شَعْرًا وَلَا يُقَلِّمَنَّ ظُفْرًا ". وَفِي لَفْظٍ لَهُ عَنْهَا مَرْفُوعًا " إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ " اهـ.
كُلُّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ زَوْجِهِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا، عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ أَنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ مَوْكُولَةٌ إِلَى إِرَادَةِ الْمُضَحِّي، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمَا كَانَتْ كَذَلِكَ.
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ": بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ بَعْضَ رِوَايَاتِ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ الْمَذْكُورِ مَا نَصُّهُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ التَّضْحِيَةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ ; لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، " وَأَرَادَ " فَجَعَلَهُ مُفَوَّضًا إِلَى إِرَادَتِهِ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَقَالَ: فَلَا يَمَسَّ مِنْ شِعْرِهِ، حَتَّى يُضَحِّيَ انْتَهَى مِنْهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " أَيْضًا: وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا، يَعْنِي لِعَدَمِ الْوُجُوبِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " هُنَّ عَلَيَّ فَرَائِضُ وَهُنَّ لَكُمْ تَطَوُّعٌ: النَّحْرُ، وَالْوِتْرُ، وَرَكْعَتَا الضُّحَى "، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ. وَرَوَاهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَصَرَّحَ بِضَعْفِهِ وَلِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ طُرُقٌ، وَلَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْهَا مِنَ الضَّعْفِ وَلَمْ يَذْكُرْهَا النَّوَوِيُّ. ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَصَحَّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّهُمَا كَانَا لَا يُضَحِّيَانِ، مَخَافَةَ أَنْ يَعْتَقِدَ النَّاسُ وُجُوبَهَا اهـ كَلَامُ النَّوَوِيِّ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي ": قَالَ ابْنُ