وَاسْتِحْبَابِهِمَا، وَالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِإِيجَابِ الْإِطْعَامِ دُونَ الْأَكْلِ، وَكُلُّ هَدْيٍ وَاجِبٍ لَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، كَهَدْيِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، وَالنَّذْرِ، وَجَمِيعِ الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَكَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَدَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ: لَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنَ الْوَاجِبِ. هَذَا هُوَ حَاصِلُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.
وَأَمَّا مَذْهَبُ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَدْيٍ وَاجِبٍ، إِلَّا هَدْيَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ، وَهُوَ مَا أَوْجَبَهُ بِالتَّعْيِينِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَنْ وَاجِبٍ فِي ذِمَّتِهِ، وَمَا نَحَرَهُ تَطَوُّعًا مِنْ غَيْرِ أَنَّ يُوجِبَهُ، هَذَا هُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ مِنَ الْمَنْذُورِ، وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَيَأْكُلُ مِمَّا سِوَاهُمَا.
قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَإِسْحَاقَ ; لِأَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ بَدَلٌ وَالنَّذْرُ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: لَا يَأْكُلُ أَيْضًا مِنَ الْكَفَّارَةِ، وَيَأْكُلُ مِمَّا سِوَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَنَحْوُهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ ; لِأَنَّ مَا سِوَى ذَلِكَ لَمْ يُسَمِّهِ لِلْمَسَاكِينِ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْإِطْعَامِ فِيهِ فَأَشْبَهَ التَّطَوُّعَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَأْكُلُ مِنْ وَاجِبٍ ; لِأَنَّهُ هَدْيٌ وَاجِبٌ بِالْإِحْرَامِ فَلَمْ يَجُزِ الْأَكْلُ مِنْهُ كَدَمِ الْكَفَّارَةِ. انْتَهَى مِنَ «الْمُغْنِي» .
فَقَدْ رَأَيْتُ مَذَاهِبَ الْأَرْبَعَةِ فِيمَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهُ، وَمَا لَا يَجُوزُ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يُرَجِّحُهُ الدَّلِيلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: هُوَ جَوَازُ الْأَكْلِ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ وَهَدْيِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ دُونَ غَيْرِ ذَلِكَ، وَالْأَكْلُ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ بَعْدَ بُلُوغِهِ مَحِلَّهُ، وَإِنَّمَا خِلَافُهُمْ فِي اسْتِحْبَابِ الْأَكْلِ مِنْهُ، أَوْ وُجُوبِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَبَتَ عَنْهُ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «أَنَّهُ أَهْدَى مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ» ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدَةِ مِنْهَا تَطَوُّعٌ، وَقَدْ أَكَلَ مِنْهَا وَشَرِبَ مِنْ مَرَقِهَا جَمِيعًا.
وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى الْأَكْلِ مِنْ هَدْيِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، فَهُوَ مَا قَدَّمْنَا مِمَّا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَبَحَ عَنْهُنَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَقَرًا وَدَخَلَ عَلَيْهِنَّ بِلَحْمِهِ وَهُنَّ مُتَمَتِّعَاتٌ، وَعَائِشَةُ مِنْهُنَّ قَارِنَةٌ وَقَدْ أَكَلْنَ جَمِيعًا مِمَّا ذَبَحَ عَنْهُنَّ فِي تَمَتُّعِهِنَّ وَقِرَانِهِنَّ بِأَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي جَوَازِ الْأَكْلِ مِنْ هَدْيِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ. أَمَّا غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الدِّمَاءِ فَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ عَلَى الْأَكْلِ مِنْهُ، وَلَا يَتَحَقَّقُ دُخُولُهُ فِي عُمُومِ فَكُلُوا مِنْهَا لِأَنَّهُ لِتَرْكِ