وَفَرْعٍ يَزِينُ الْمَتْنَ أَسْوَدَ فَاحِمٍ ... أَثِيثٍ كَقِنْوِ النَّخْلَةِ الْمُتَعَثْكِلِ
غَدَائِرُهُ مُسْتَشْزِرَاتٌ إِلَى الْعُلَى ... تَضِلُّ الْمَدَارِي فِي مُثَنَّى وَمُرْسَلِ
فَتَرَاهُ جَعَلَ كَثْرَةَ شَعْرِ رَأْسِهَا وَسَوَادَهُ وَطُولَهُ مِنْ مَحَاسِنِهَا، وَهُوَ كَذَلِكَ. وَقَالَ الْأَعْشَى مَيْمُونُ بْنُ قَيْسٍ:
غِرَاءُ فَرْعَاءُ مَصْقُولٌ عَوَارِضُهَا ... تَمْشِي الْهُوَيْنَا كَمَا يَمْشِي الْوَجِي الْوَحِلُ
فَقَوْلُهُ: فَرْعَاءُ يَعْنِي أَنَّ فَرْعَهَا أَيْ شَعْرَ رَأْسِهَا تَامٌّ فِي الطُّولِ وَالسَّوَادِ وَالْحُسْنِ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ:
تَقُولُ يَا أُمَّتَا كُفِّي جَوَانِبَهُ ... وَيْلِي بَلِيتُ وَأَبْلَى جِيدِيَ الشَّعْرُ
مِثْلُ الْأَسَاوِدِ قَدْ أَعْيَا مَوَاشِطَهُ ... تَضِلُّ فِيهِ مَدَارِيهَا وَتَنْكَسِرُ
فَلَوْ لَمْ تَكُنْ كَثْرَةُ الشَّعْرِ وَسَوَادُهُ مِنَ الْجَمَالِ عِنْدَهُمْ، لَمَا تَعِبُوا فِي خِدْمَتِهِ هَذَا التَّعَبَ الَّذِي ذَكَرَهُ هَذَا الشَّاعِرُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْآخَرِ:
وَفَرْعٌ يَصِيرُ الْجِيدَ وَحْفٌ كَأَنَّهُ ... عَلَى اللَّيْثِ قِنْوَانُ الْكُرُومِ الدَّوَالِحِ
لِأَنَّ قَوْلَهُ: يُصِيرُ الْجِيدَ أَيْ يُمِيلُ الْعُنُقَ لِكَثْرَتِهِ، وَقَدْ بَالَغَ مَنْ قَالَ: بَيْضَاءُ تَسْحَبُ مِنْ قِيَامٍ فَرْعَهَا وَتَغِيبُ فِيهِ وَهُوَ وَجْفٌ أَسْحَمُ فَكَأَنَّهَا فِيهِ نَهَارٌ سَاطِعٌ وَكَأَنَّهُ لَيْلٌ عَلَيْهَا مُظْلِمُ وَأَمْثَالُ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تَنْحَصِرَ، وَقَصَدْنَا مُطْلَقَ التَّمْثِيلِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَلْقَ الْمَرْأَةِ شَعْرَ رَأْسِهَا نَقْصٌ فِي جَمَالِهَا، وَتَشْوِيهٌ لَهَا، فَهُوَ مُثْلَةٌ وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْعُرْفَ الَّذِي صَارَ جَارِيًا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ، بِقَطْعِ الْمَرْأَةِ شَعْرَ رَأْسِهَا إِلَى قُرْبِ أُصُولِهِ سُنَّةٌ أَفِرِنْجِيَّةٌ مُخَالِفَةٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَنِسَاءُ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الِانْحِرَافَاتِ الَّتِي عَمَّتِ الْبَلْوَى بِهَا فِي الدِّينِ وَالْخُلُقِ، وَالسَّمْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: جَاءَ عَنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَدُلُّ عَلَى حَلْقِ الْمَرْأَةِ رَأْسَهَا، وَتَقْصِيرِهَا إِيَّاهُ، فَمَا دَلَّ عَلَى الْحَلْقِ، فَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ فِي النَّوْعِ الْحَادِي عَشَرَ مِنَ الْقِسْمِ الْخَامِسِ، مِنْ حَدِيثِ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ: ثَنَا أَبِي، سَمِعْتُ أَبَا فَزَارَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، عَنْ مَيْمُونَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَهَا حَلَالًا وَبَنَى بِهَا وَمَاتَتْ بِسَرِفٍ، فَدَفَنَهَا فِي الظُّلَّةِ الَّتِي بَنَى بِهَا فِيهَا، فَنَزَلْنَا قَبْرَهَا أَنَا وَابْنُ عَبَّاسٍ فَلَمَّا وَضَعْنَاهَا فِي اللَّحْدِ مَالَ رَأْسُهَا فَأَخَذْتُ