فَيُخَالِفُهُ الْآخَرُ، وَيَقُولُ: مَنَاطُ التَّحْرِيمِ، لَيْسَ مَوْجُودًا فِيهِمَا ; لِأَنَّهُمَا لَا يُتَّخَذُ مِنْهُمَا الطِّيبُ، فَلَيْسَا بِطِيبٍ وَهَكَذَا.

وَاعْلَمْ: أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى لُزُومِ الْفِدْيَةِ فِي اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ، وَلَا دَلِيلَ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَعْمَلَ الطِّيبَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ يَلْزَمُهُ فِدْيَةٌ، وَلَكِنَّهُمْ قَاسُوا الطِّيبَ عَلَى حَلْقِ الرَّأْسِ الْمَنْصُوصِ عَلَى الْفِدْيَةِ فِيهِ، إِنْ وَقَعَ لِعُذْرٍ فِي آيَةِ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [2 \ 196] .

وَأَظْهَرُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ الْفِدْيَةَ اللَّازِمَةَ كَفِدْيَةِ الْأَذَى وَهِيَ عَلَى التَّخْيِيرِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ ; لِأَنَّهَا هِيَ حِكَمُ الْأَصْلِ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ، وَالْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنِ اتِّفَاقِ الْفَرْعِ الْمَقِيسِ، وَالْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ وَذَلِكَ هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، إِنْ كَانَ التَّطَيُّبُ، أَوِ اللُّبْسُ لِعُذْرٍ ; لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْعُذْرِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مُطْلَقًا كَانَ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ.

فَتَحَصَّلَ: أَنَّ مَذَاهِبَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ فِدْيَةَ الطِّيبِ، وَتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ، وَاللُّبْسِ، وَتَقْلِيمِ الْأَظَافِرِ، كَفِدْيَةِ حَلْقِ الرَّأْسِ الْمَنْصُوصَةِ فِي آيَةِ الْفِدْيَةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا مُسْتَوْفًى، وَقَدَّمْنَا الْأَقْوَالَ الْمُخَالِفَةَ لِهَذَا الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْأَرْبَعَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مُقْتَضَى الْأُصُولِ، لِوُجُوبِ اتِّفَاقِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي الْحُكْمِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

تَنْبِيهَانِ

الْأَوَّلُ: فِي ذِكْرِ أَشْيَاءَ مِمَّا ذُكِرَ وَرَدَتْ فِيهَا نُصُوصٌ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ: فَمِنْ ذَلِكَ الْعُصْفُرِ وَقَدْ رَأَيْتُ فِي النُّقُولِ الَّتِي ذَكَرْنَا مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: بِأَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْمُحْرِمِ لَهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِيهِ حَدِيثَ أَبِي دَاوُدَ الْمُصَرِّحَ بِأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِلُبْسِ النِّسَاءِ لَهُ، وَهُنَّ مُحْرِمَاتٌ، وَفِيهِ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَقَدْ صَرَّحَ فِيهِ بِالسَّمَاعِ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُدَلِّسْ فِيهِ إِلَى آخِرِ مَا قَدَّمْنَا فِيهِ، وَالظَّاهِرُ بِحَسَبِ الدَّلِيلِ: أَنَّ الْمُعَصْفَرَ لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ، وَإِنْ جَوَّزَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَجِلَّاءِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ ; لِأَنَّ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ.

وَقَدْ قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ يَحْيَى، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ: أَنَّ ابْنَ مَعْدَانَ أَخْبَرَهُ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَخْبَرَهُ قَالَ " رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ فَلَا تَلْبَسْهَا "، اهـ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015