كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ طِيبًا كَثِيرًا عَلَى بَعْضِ عُضْوٍ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الصَّدَقَةُ. وَصَحَّحَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الطِّيبُ قَلِيلًا فَالْعِبْرَةُ بِالْعُضْوِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَالْعِبْرَةُ بِالطِّيبِ، وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَعَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ مَنْ مَسَّ طِيبًا بِإِصْبَعِهِ، فَأَصَابَهَا كُلَّهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: إِنْ طَيَّبَ شَارِبَهُ كُلَّهُ أَوْ بِقَدْرِهِ مِنْ لِحْيَتِهِ، أَوْ رَأْسِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَعَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ إِنِ اكْتَحَلَ بِكُحْلٍ مُطَيَّبٍ، فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ، وَمِثْلُهُ الْأَنْفُ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا كَثِيرَةً فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَفِي مَنَاسِكِ الْكِرْمَانِيِّ: لَوْ طَيَّبَ جَمِيعَ أَعْضَائِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ، لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَلَوْ كَانَ الطِّيبُ فِي أَعْضَاءَ مُتَفَرِّقَةٍ يُجْمَعُ ذَلِكَ كُلُّهُ، فَإِنْ بَلَغَ عُضْوًا: فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِلَّا فَصَدَقَةٌ، وَلَوْ شَمَّ طِيبًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِنْ دَخَلَ بَيْتًا مُجَمَّرًا، فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِنْ أَجْمَرَ ثَوْبَهُ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ كَثِيرًا، فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِلَّا فَصَدَقَةٌ انْتَهَى مِنْ تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ طَيَّبَ أَعْضَاءَهُ كُلَّهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ دَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، سَوَاءٌ ذَبَحَ لِلْأَوَّلِ أَوْ لَمْ يَذْبَحْ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إِنْ ذَبَحَ لِلْأَوَّلِ، فَكَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَذْبَحْ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ كَاخْتِلَافٍ فِي الْجِمَاعِ، اهـ.
وَأَظْهَرُهَا عِنْدِي قَوْلُ مُحَمَّدٍ: وَالْحِنَّاءُ عِنْدَهُمْ طِيبٌ، فَلَوْ خَضَّبَ رَأْسَهُ بِالْحِنَّاءِ، لَزِمَهُ الدَّمُ. وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: «الْحِنَّاءُ طِيبٌ» . قَالُوا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَسَيَأْتِي مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ رَوَاهُ فِي «الْمَعْرِفَةِ» ، وَفِي إِسْنَادِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحِنَّاءَ لَيْسَ بِطِيبٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى: هَذَا حَاصِلُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ فِي الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ.
وَأَمَّا مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ فَحَاصِلُهُ: أَنَّ الطِّيبَ عِنْدَهُمْ نَوْعَانِ: مُذَكَّرٌ وَمُؤَنَّثٌ، أَمَّا الْمُذَكَّرُ فَهُوَ مَا يَظْهَرُ رِيحُهُ، وَيَخْفَى أَثَرُهُ: كَالرَّيْحَانِ، وَالْيَاسَمِينِ، وَالْوَرْدِ، وَالْبَنَفْسَجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمُؤَنَّثُ: فَهُوَ مَا يَظْهَرُ رِيحُهُ، وَيَبْقَى أَثَرُهُ: كَالْمِسْكِ وَالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالْكَافُورِ وَالْعَنْبَرِ وَالْعُودِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَأَمَّا الْمُذَكَّرُ فَيُكْرَهُ شَمُّهُ وَالتَّطَيُّبُ بِهِ، وَلَا فِدْيَةَ فِي مَسِّهِ، وَالتَّطَيُّبِ بِهِ وَلَوْ غَسَلَ يَدَيْهِ بِمَاءِ الْوَرْدِ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ مِنَ الطِّيبِ الْمُذَكَّرِ، خِلَافًا لِابْنِ فَرْحُونَ فِي مَنَاسِكِهِ ; حَيْثُ قَالَ: إِنَّ مَاءَ الْوَرْدِ فِيهِ الْفِدْيَةُ ; لِأَنَّ أَثَرَهُ يَبْقَى، وَمِمَّنْ قَالَ: بِأَنَّ الطِّيبَ الْمُذَكَّرَ لَا فِدْيَةَ فِي اسْتِعْمَالِهِ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَإِسْحَاقُ. وَأَمَّا مَا يَنْبُتُ فِي الْأَرْضِ مِنَ النَّبَاتِ الطَّيِّبِ الرِّيحِ وَلَا يُقْصَدُ التَّطَيُّبُ بِهِ، كَالشِّيحِ، وَالْقَيْصُومِ، وَالزَّنْجَبِيلِ، وَالْإِذْخَرِ، فَلَا فِدْيَةَ فِيهِ