الْمَذْكُورِ كَوْنُهُ فِي حُرْمَةِ الْإِسْلَامِ، وَذِمَّتِهِ الَّتِي يَجِبُ حِفْظُهَا، وَيَحْرُمُ انْتِهَاكُهَا وَأَنَّهُ لَمْ يُحِلَّ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا يَسْتَوْجِبُ بِهِ الْقَتْلَ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْمُحْرِمِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْأَخِيرِ، قَوْلُ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ:

قَتَلُوا كِسْرَى بِلَيْلٍ مُحْرِمًا ... غَادَرُوهُ لَمْ يُمَتَّعْ بِكَفَنْ

يُرِيدُ قَتْلَ شِيرَوَيْهِ أَبَاهُ أَبْرُوِيزَ بْنَ هُرْمُزَ، مَعَ أَنَّ لَهُ حُرْمَةَ الْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدُوهُ بِهِ، حِينَ مَلَّكُوهُ عَلَيْهِمْ، وَحُرْمَةَ الْأُبُوَّةِ وَلَمْ يَفْعَلْ لَهُمْ شَيْئًا يَسْتَوْجِبُ بِهِ مِنْهُمُ الْقَتْلَ. وَذَلِكَ هُوَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ: مُحْرِمًا، وَعَلَى تَفْسِيرِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَهُوَ مُحْرِمٌ بِمَا ذَكَرَ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبَيْنَ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ وَأَبِي رَافِعٍ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ تَفْسِيرَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمَا ذُكِرَ لَيْسَ بِمُتَعَيِّنٍ وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ كُلَّ الظُّهُورِ، وَأَنَّ التَّعَارُضَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بَاقٍ، وَالْمَصِيرَ إِلَى التَّرْجِيحِ إِذًا وَاجِبٌ. وَحَدِيثُ مَيْمُونَةَ وَأَبِي رَافِعٍ أَرْجَحُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّ مَيْمُونَةَ هِيَ صَاحِبَةُ الْقِصَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ صَاحِبَ الْقِصَّةِ أَدْرَى بِمَا جَرَى لَهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِهِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ خَبَرَ صَاحِبِ الْوَاقِعَةِ الْمَرْوِيَّةِ مُقَدَّمٌ عَلَى خَبَرِ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِالْحَالِ مِنْ غَيْرِهِ، وَالْأُصُولِيُّونَ يُمَثِّلُونَ لَهُ بِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ الْمَذْكُورِ، مَعَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» فِي مَبْحَثِ التَّرْجِيحِ، بِاعْتِبَارِ حَالِ الرَّاوِي بِقَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى مَا تُرَجَّحُ بِهِ رِوَايَةُ أَحَدِ الرَّاوِيَيْنِ عَلَى رِوَايَةِ الْآخَرِ:

أَوْ رَاوِيًا بِاللَّفْظِ أَوْ ذَا الْوَاقِعِ ... وَكَوْنَ مَنْ رَوَاهُ غَيْرَ مَانِعِ

وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ قَوْلُهُ: أَوْ ذَا الْوَاقِعِ: أَيْ يُقَدَّمُ خَبَرُ ذِي الْوَاقِعِ الْمَرْوِيِّ عَلَى خَبَرِ غَيْرِهِ كَخَبَرِ مَيْمُونَةَ، مَعَ خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمِمَّا يُرَجَّحُ بِهِ حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَبَا رَافِعٍ هُوَ رَسُولُهُ إِلَيْهَا يَخْطُبُهَا عَلَيْهِ، فَهُوَ مُبَاشِرٌ لِلْوَاقِعَةِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ تَرْجِيحُ خَبَرِ الرَّاوِي الْمُبَاشِرِ لِمَا رَوَى عَلَى خَبَرِ غَيْرِهِ ; لِأَنَّ الْمُبَاشِرَ لِمَا رَوَى أَعْرَفُ بِحَالِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَالْأُصُولِيُّونَ يُمَثِّلُونَ لَهُ بِخَبَرِ أَبِي رَافِعٍ الْمَذْكُورِ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ، قَالَ: وَكُنْتُ الرَّسُولَ فِيمَا بَيْنَهُمَا، مَعَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ: «أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ» .

وَمِمَّا يَرْجُحُ بِهِ حَدِيثُ مَيْمُونَةَ، وَحَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ مَعًا، عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنْ مَيْمُونَةَ، وَأَبَا رَافِعٍ كَانَا بَالِغَيْنِ وَقْتَ تَحَمُّلِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَابْنَ عَبَّاسٍ لَيْسَ بِبَالِغٍ وَقْتَ التَّحَمُّلِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ تَرْجِيحُ خَبَرِ الرَّاوِي الْمُتَحَمِّلِ بَعْدَ الْبُلُوغِ عَلَى الْمُتَحَمِّلِ قَبْلَهُ ; لِأَنَّ الْبَالِغَ أَضْبَطُ مِنَ الصَّبِيِّ لِمَا تَحْمَّلَ، وَلِلِاخْتِلَافِ فِي قَبُولِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015