وَاعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ: أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ نَصَّانِ وَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا إِنْ أَمْكَنَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ وَجَبَ التَّرْجِيحُ.
وَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ أَجْوِبَتِهِمْ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ، أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ، وَأَبِي رَافِعٍ: «أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ» وَوَجْهُ الْجَمْعِ فِي ذَلِكَ، هُوَ أَنْ يُفَسَّرَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِهِ مُحْرِمًا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَقَدْ تَزَوَّجَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَهُوَ ذُو الْقِعْدَةِ عَامَ سَبْعٍ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ: «الْمَغَازِي فِي بَابِ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ» .
قَالَ بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ، وَزَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، وَأَبَانُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «تَزَوَّجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَيْمُونَةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ» انْتَهَى مِنْهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ كَانَتْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَهُوَ ذُو الْقِعْدَةِ مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ فِي إِطْلَاقِ الْإِحْرَامِ عَلَى الدُّخُولِ فِي حُرْمَةٍ لَا تُهْتَكُ كَالدُّخُولِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، أَوْ فِي الْحَرَمِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ فِي «اللِّسَانِ» : وَأَحْرَمَ الرَّجُلُ: إِذَا دَخَلَ فِي حُرْمَةٍ لَا تُهْتَكُ. وَمِنْ إِطْلَاقِ الْإِحْرَامِ عَلَى الدُّخُولِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَقَدْ أَنْشَدَهُ فِي اللِّسَانِ شَاهِدًا لِذَلِكَ - قَوْلُ زُهَيْرٍ:
جَعَلْنَ الْقِنَانَ عَنْ يَمِينٍ وَحُزْنَهُ ... وَكَمْ بِالْقِنَانِ مِنْ مُحِلٍّ وَمُحْرِمِ
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
وَإِذْ فَتَكَ النُّعْمَانُ بِالنَّاسِ مُحْرِمًا ... فَمَلِيءٌ مِنْ عَوْفِ بْنِ كَعْبٍ سَلَاسِلُهْ
وَقَوْلُ الرَّاعِي:
قَتَلُوا ابْنَ عَفَّانَ الْخَلِيفَةَ مُحْرِمًا ... وَدَعَا فَلَمْ أَرَ مِثْلَهُ مَقْتُولًا
فَتَفَرَّقَتْ مِنْ بَعْدِ ذَاكَ عَصَاهُمُ ... شَقَقًا وَأَصْبَحَ سَيْفُهُمْ مَسْلُولًا
وَيُرْوَى: فَلَمْ أَرَ مِثْلَهُ مَخْذُولًا، فَقَوْلُهُ: قَتَلُوا ابْنَ عَفَّانَ الْخَلِيفَةَ مُحْرِمًا: أَيْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَهُوَ ذُو الْحِجَّةِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ ; لِأَنَّ الْمُحْرِمَ يُطْلَقُ لُغَةً عَلَى كُلِّ دَاخِلٍ فِي حُرْمَةٍ لَا تُهْتَكُ، سَوَاءٌ كَانَتْ زَمَانِيَّةً، أَوْ مَكَانِيَّةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ، مِنْهُمُ الْأَصْمَعِيُّ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِ الرَّاعِي: مُحْرِمًا فِي بَيْتِهِ