قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَقْرَبُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي لِلصَّوَابِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَهُمْ أَنْ يَتَمَتَّعُوا، وَيَقْرِنُوا وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ هَدْيٌ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ الْآيَةَ [2 \ 196] عَامٌّ بِلَفْظِهِ فِي جَمِيعِ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَغَيْرِهِمْ وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ هَذَا الْعُمُومِ، إِلَّا بِمُخَصَّصٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَتَخْصِيصُهُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَا يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ ; لِاحْتِمَالِ رُجُوعِ الْإِشَارَةِ إِلَى الْهَدْيِ وَالصَّوْمِ، لَا إِلَى التَّمَتُّعِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ، وَأَنَّ الْمَكِّيَّ إِذَا أَرَادَ الْعُمْرَةَ خَرَجَ إِلَى الْحِلِّ فَأَحْرَمَ مِنْهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا هُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ إِرْسَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَعَ أَخِيهَا لِتُحْرِمَ بِعُمْرَتِهَا مِنَ التَّنْعِيمِ، وَهُوَ نَصٌّ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ أَرْسَلَهَا مَعَ أَخِيهَا لِتِلْكَ الْعُمْرَةِ تَطْيِيبًا لِخَاطِرِهَا، لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ أَلْبَتَّةَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَأْمُرُهَا بِعُمْرَةٍ، وَهِيَ نُسُكٌ وَعِبَادَةٌ إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ لِعَامَّةِ النَّاسِ لِاسْتِوَاءِ جَمِيعِ النَّاسِ فِي أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ، فَعُمْرَتُهَا الْمَذْكُورَةُ نُسُكٌ قَطْعًا، وَالْحَالَةُ الَّتِي أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَدَاءِ ذَلِكَ النُّسُكِ عَلَيْهَا لَا شَكَّ أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ إِلَّا فِيمَا قَامَ دَلِيلٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ بِالْخُصُوصِ، وَقِصَّةُ عُمْرَةِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورَةِ لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى التَّخْصِيصِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْفَرْعُ الرَّابِعُ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ سَلَكَ إِلَى الْحَرَمِ طَرِيقًا لَا مِيقَاتَ فِيهَا فَمِيقَاتُهُ الْمَحَلُّ الْمُحَاذِي، لِأَقْرَبِ الْمَوَاقِيتِ إِلَيْهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ تَوْقِيتِ عُمَرَ ذَاتَ عِرْقٍ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ لِمُحَاذَاتِهَا قَرْنَ الْمَنَازِلِ. وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ.
الْفَرْعُ الْخَامِسُ: قَدْ قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ النَّسَائِيِّ أَنَّ الْجُحْفَةَ مِيقَاتٌ لِأَهْلِ مِصْرَ وَأَهْلِ الشَّامِ، وَعَلَيْهِ فَمِيقَاتُ أَهْلِ مِصْرَ مَنْصُوصٌ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ.
الْفَرْعُ السَّادِسُ: أَظْهَرُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي: أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ، وَمِصْرَ مَثَلًا إِذَا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ، فَمِيقَاتُهُمْ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُؤَخِّرُوا إِحْرَامَهُمْ إِلَى مِيقَاتِهِمُ الْأَصْلِيِّ الَّذِي هُوَ الْجُحْفَةُ، أَوْ مَا حَاذَاهَا. لِظَاهِرِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: فَهُنَّ لَهُنَّ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ. وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ.
الْفَرْعُ السَّابِعُ: اعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ جَاوَزَ مِيقَاتَهُ مِنَ الْمَوَاقِيتِ الْمَذْكُورَةِ غَيْرَ مُحْرِمٍ، وَهُوَ يُرِيدُ النُّسُكَ أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا، وَدَلِيلُهُ فِي ذَلِكَ أَثَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي