فِي مَرْجِعِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَالَّذِينَ قَالُوا: لِأَهْلِ مَكَّةَ تَمَتُّعٌ، وَقِرَانٌ كَغَيْرِهِمْ، قَالُوا: الْإِشَارَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْهَدْيِ، وَالصَّوْمِ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ مَنْ كَانَ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِذَا تَمَتَّعَ فَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ، وَلَا صَوْمَ، وَالَّذِينَ قَالُوا: لَيْسَ لِأَهْلِ مَكَّةَ تَمَتُّعٌ وَلَا قِرَانٌ، قَالُوا: الْإِشَارَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: فَمَنْ تَمَتَّعَ [2 \ 196] ؛ أَيْ: ذَلِكَ التَّمَتُّعُ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَمَّا مَنْ كَانَ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَلَا تَمَتُّعَ لَهُ، وَالْقِرَانُ دَاخِلٌ فِي اسْمِ التَّمَتُّعِ فِي عُرْفِ الصَّحَابَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ، وَالَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ زَعَمُوا أَنَّ فِي الْآيَةِ بَعْضَ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، مِنْهَا التَّعْبِيرُ بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ الْآيَةَ ; لِأَنَّ اللَّامَ تُسْتَعْمَلُ فِيمَا لَنَا لَا فِيمَا عَلَيْنَا، وَالتَّمَتُّعُ لَنَا أَنْ نَفْعَلَهُ، وَأَنْ لَا نَفْعَلَهُ بِخِلَافِ الْهَدْيِ، فَهُوَ عَلَيْنَا وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْهَدْيِ، وَمِنْهَا: أَنَّهُ جَمَعَ فِي الْإِشَارَةِ بَيْنَ اللَّامِ وَالْكَافِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الْبُعْدِ وَالتَّمَتُّعُ أَبْعَدُ فِي الذِّكْرِ مِنَ الْهَدْيِ وَالصَّوْمِ.
وَأَجَابَ الْمُخَالِفُونَ: بِأَنَّ الْإِشَارَةَ تَرْجِعُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُوَ الْهَدْيُ، وَالصَّوْمُ، وَأَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَى الْقَرِيبِ إِشَارَةُ الْبَعِيدِ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مُعْمَرَ بْنِ الْمُثَنَّى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: ذَلِكَ الْكِتَابُ [2] ؛ أَيْ: هَذَا الْقُرْآنُ. لِأَنَّ الْكِتَابَ قَرِيبٌ، وَلِذَا تَكْثُرُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ بِإِشَارَةِ الْقَرِيبِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] وَقَوْلِهِ: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ الْآيَةَ [65 \ 92] وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَمِنْ إِطْلَاقِ إِشَارَةِ الْبَعِيدِ عَلَى الْقَرِيبِ قَوْلُ خُفَافِ بْنِ نُدْبَةَ السُّلَمِيِّ:
فَإِنْ تَكُ خَيْلِي قَدْ أُصِيبَ صَمِيمُهَا ... فَعَمْدًا عَلَى عَيْنِي تَيَمَّمْتُ مَالِكًا
أَقُولُ لَهُ وَالرُّمْحَ يَأْطِرُ مَتْنُهُ ... تَأَمَّلْ خُفَافًا إِنَّنِي أَنَا ذَلِكَا
فَقَدْ أَشَارَ إِلَى نَفْسِهِ إِشَارَةَ الْبَعِيدِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا مِنْ نَفْسِهِ قَالُوا: وَاللَّامُ تَأْتِي بِمَعْنَى عَلَى كَقَوْلِهِ: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا [7 \ 17] ؛ أَيْ: فَعَلَيْهَا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ [17 \ 109] ؛ أَيْ: عَلَى الْأَذْقَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ:
هَتَكْتُ لَهُ بِالرُّمْحِ جَيْبَ قَمِيصِهِ ... فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ
وَفِي الْحَدِيثِ: «وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ» أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِالْهَدْيِ وَالصَّوْمِ مَشْرُوعٌ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.