بِالْبَطْحَاءِ، فَقَالَ لِي «أَحَجَجْتَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: بِمَ أَهْلَلْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَبَّيْكَ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَقَدْ أَحْسَنْتَ. طُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ» . الْحَدِيثَ قَالُوا: فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ «طُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ» أَمْرٌ صَرِيحٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، وَصِيغَةُ الْأَمْرِ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ صَارِفٌ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى اقْتِضَائِهَا الْوُجُوبَ: الشَّرْعُ وَاللُّغَةُ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَقْلَ يُفِيدُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ عِنْدِي، أَمَّا دَلَالَةُ الشَّرْعِ عَلَى ذَلِكَ فَفِي نُصُوصٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [24 \ 63] وَهَذَا الْوَعِيدُ الْعَظِيمُ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ، يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ امْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِإِبْلِيسَ لَمَّا لَمْ يَمْتَثِلِ الْأَمْرَ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ بِصِيغَةِ افْعَلِ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: اسْجُدُوا لِآدَمَ [20 \ 116] مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ الْآيَةَ [7 \ 12] فَتَوْبِيخُهُ وَتَقْرِيعُهُ لَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِمُخَالَفَتِهِ الْأَمْرَ، وَقَدْ سَمَّى نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُخَالَفَةَ الْأَمْرِ مَعْصِيَةً وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الِامْتِثَالِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُ: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [20 \ 93] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [33 \ 36] فَجَعَلَ أَمْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَانِعًا مِنْ الِاخْتِيَارِ مُوجِبًا لِلِامْتِثَالِ، مُنَبِّهًا عَلَى عَدَمِ الِامْتِثَالِ مَعْصِيَةً فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا [33 \ 36] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [59 \ 7] وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ.

وَأَمَّا دَلَالَةُ اللُّغَةِ عَلَى اقْتِضَاءِ صِيغَةِ افْعَلِ الْوُجُوبَ. فَإِيضَاحُهَا أَنَّ أَهْلَ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ السَّيِّدَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: اسْقِنِي مَاءً مَثَلًا، ثُمَّ لَمْ يَمْتَثِلِ الْعَبْدُ وَعَاقَبَهُ سَيِّدُهُ عَلَى عَدَمِ الِامْتِثَالِ كَانَ ذَلِكَ الْعِقَابُ وَاقِعًا مَوْقِعَهُ، لِأَنَّ صِيغَةَ افْعَلْ أَلْزَمَتْهُ الِامْتِثَالَ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَقُولَ: صِيغَةُ افْعَلْ لَمْ تُوجِبْ عَلَيَّ الْامْتِثَالَ، وَلَمْ تُلْزِمْنِي إِيَّاهُ؟ فَعِقَابُكَ لِي غَلَطٌ لِأَنِّي لَمْ أَتْرُكْ شَيْئًا لَازِمًا، حَتَّى تُعَاقِبَنِي عَلَيْهِ. وَإِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَأَنَّ عِقَابَهُ لَهُ صَوَابٌ لِعِصْيَانِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صِيغَةَ افْعَلْ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ، مَا لَمْ يَصْرِفْ عَنْهُ صَارِفٌ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ. وَمُقَابِلُهُ أَقْوَالٌ أُخَرُ، أَشَارَ لَهَا فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ فِي مَبْحَثِ الْأَمْرِ:

وَافْعَلْ لَدَى الْأَكْثَرِ لِلْوُجُوبِ وَقِيلَ لِلنَّدْبِ أَوِ الْمَطْلُوبِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015