فَقَوْلُهَا «غَنِثْتَ» بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وَنُونٍ مَكْسُورَةٍ وَثَاءٍ مُثَلَّثَةٍ مُسْنَدًا لِتَاءِ الْمُخَاطَبِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهَا «غَنِثْتَ» تَنَفَّسْتَ فِي الشُّرْبِ، كَنَتَ بِذَلِكَ عَنِ الْجِمَاعِ، تُرِيدُ عَدَمَ مُتَابَعَتِهِ لِذَلِكَ، وَأَنْ يَتَنَفَّسَ بَيْنَ ذَلِكَ، وَهَذَا النَّوْعُ حَرْفٌ أَيْضًا بِلَا خِلَافٍ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: إِنَّهُ لُغَةُ هُذَيْلٍ.
الثَّالِثُ مِنْ أَنْوَاعِ «لَمَّا» هُوَ النَّوْعُ الْمُخْتَصُّ بِالْمَاضِي الْمُقْتَضِي جُمْلَتَيْنِ، تُوجَدُ ثَانِيَتُهُمَا عِنْدَ وُجُودِ أُولَاهُمَا، كَقَوْلِهِ: لَمَّا ظَلَمُوا، أَيْ: لَمَّا ظَلَمُوا أَهْلَكْنَاهُمْ، فَمَا قَبْلَهَا دَلِيلٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ، وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، «وَلَمَّا» هَذِهِ الَّتِي تَقْتَضِي رَبْطَ جُمْلَةٍ بِجُمْلَةٍ اخْتَلَفَ فِيهَا النَّحْوِيُّونَ: هَلْ هِيَ حِرَفٌ، أَوِ اسْمٌ، وَخِلَافُهُمْ فِيهَا مَشْهُورٌ، وَمِمَّنِ انْتَصَرَ لِأَنَّهَا حَرْفٌ ابْنُ خَرُوفٍ وَغَيْرُهُ، وَمِمَّنِ انْتَصَرَ لِأَنَّهَا اسْمٌ ابْنُ السَّرَّاجِ وَالْفَارِسِيُّ وَابْنُ جِنِّيٍّ وَغَيْرُهُمْ، وَجَوَابُ «لَمَّا» هَذِهِ يَكُونُ فِعْلًا مَاضِيًا بِلَا خِلَافٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ الْآيَةَ [17 \ 67] ، وَيَكُونُ جُمْلَةً اسْمِيَّةً مَقْرُونَةً بِـ «إِذَا» الْفُجَائِيَّةِ، كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [29 \ 65] ، أَوْ مَقْرُونَةً بِالْفَاءِ كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ الْآيَةَ [31 \ 32] ، وَيَكُونُ جَوَابُهَا فِعْلًا مُضَارِعًا كَمَا قَالَهُ ابْنُ عُصْفُورٍ، كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ الْآيَةَ [11 \ 74] ، وَبَعْضُ مَا ذَكَرْنَا لَا يَخْلُو مِنْ مُنَاقَشَةٍ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَكِنَّهُ هُوَ الظَّاهِرُ.
هَذِهِ الْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ، هِيَ الَّتِي تَأْتِي لَهَا «لَمَّا» فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ.
أَمَّا «لَمَّا» الْمُتَرَكِّبَةُ مِنْ كَلِمَاتٍ أَوْ كَلِمَتَيْنِ فَلَيْسَتْ مِنْ «لَمَّا» الَّتِي كَلَامُنَا فِيهَا ; لِأَنَّهَا غَيْرُهَا، فَالْمُرَكَّبَةُ مِنْ كَلِمَاتٍ كَقَوْلِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ [11 \ 111] ، فِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ بِتَشْدِيدِ نُونِ «إِنَّ» وَمِيمِ «لَمَّا» عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْأَصْلَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: لَمِنْ مَا بِمِنِ التَّبْعِيضِيَّةِ، وَمَا بِمَعْنَى مِنْ، أَيْ: وَإِنَّ كُلًّا لَمِنْ جُمْلَةِ مَا يُوَفِّيهِمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ، فَأُبْدِلَتْ نُونُ «مِنْ» مِيمًا وَأُدْغِمَتْ فِي مَا، فَلَمَّا كَثُرَتِ الْمِيمَاتُ حُذِفَتِ الْأُولَى فَصَارَ لَمًّا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَـ «لَمَّا» مُرَكَّبَةٌ مِنْ ثَلَاثِ كَلِمَاتٍ: الْأَوْلَى الْحَرْفُ الَّذِي هُوَ اللَّامُ، وَالثَّانِيَةُ مِنْ، وَالثَّالِثَةُ مَا، وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ قَالَ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَخْفَى ضَعْفُهُ وَبُعْدُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ، وَقَصْدُنَا مُطْلَقُ التَّمْثِيلِ لِـ «لَمَّا» الْمُرَكَّبَةِ مِنْ كَلِمَاتٍ عَلَى