هذا، والشرع يقضي بأن الكشف ليس مما يصلح الاستناد إليه في الدين، ففي "صحيح البخاري" من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إلَّا المُبَشِّرَاتُ" (?)، قالوا: وما المبشرات؟ قال: "الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ".
وفيه حجة على أنه لم يبق مما يناسب الوحي إلا الرؤيا، اللهم إلا أن يكون بقي ما هو دون الرؤيا، فلم يعتد به، فدل ذلك أن التحديث، والإلهام، والفراسة، والكهانة، والكشف، كلها دون الرؤيا، والسر في ذلك أن الغيب على مراتب:
الأُوْلَى: ما لا يعلمه إلا اللَّه، ولم يُعْلِمْ به أحدًا، أو أعلم به بعض ملائكته.
الثَّانِيَةُ: ما قد علمه غير الملائكة من الخلق.
الثَّالِثَةُ: ما عليه قرائن ودلائل إذا تنبه لها الإنسان عرفه؛ كما ترى أمثلة ذلك فيما يحكى من ذكاء إياس، والشافعي، وغيرهما، فالرؤيا قد تتعلق بما هو من المرتبة الأولى، لكن الحديث يقضي أنه لم يبق منها إلا ما كان على وجه التبشير فقط، وفي معناه التحذير، والفراسة، تتعلق بالمرتبة الثالثة، وبقية الأمور بالمرتبة الثانية، وإنما الفرق بينهما -واللَّه أعلم- أن التحديث والإلهام من إلقاء الملَك في الخاطر، والكهانة من إلقاء الشيطان، والكشف قوة طبيعية غريبة؛ كما يسمى في هذا العصر قراءة الأفكار.
نعم، قد يقال: إن الرياضة قد تؤهل صاحبها لأن يقع له في يقظته ما يقع له في نومه، فيكون الكشف ضربًا من الرؤيا.
وأقول: إن صح هذا، فقد تقدم أن الرؤيا قصاراها التبشير والتحذير، وفي الصحيح أن الرؤيا قد تكون حقًّا وهي المعدودة من النبوة، وقد تكون من الشيطان، وقد تكون من حديث النفس، والتمييز مُشْكِل، ومع ذلك فالغالب أن