قبل الدخول في المقصود لابد أن نقدم مقدمة لبيان المراد، هذه المقدمة ننطلق فيها من واقع قوله عليه الصلاة والسلام الذي أخرجه أبو داود وأحمد والحاكم عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا إلى ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة)، وفي رواية قال: (ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة)، وفي رواية قال: (كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كانوا على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، وفي رواية معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ألا إنه يخرج من أمتي أقوام يهوون هوى يتجارى بهم ذلك الهوى كما يتجارى الكَلَب بصاحبه، لا يدع منه عرقاً ولا مفصلاً إلا دخله).
أما قوله: (وإنه يخرج من أمتي) فبصيغة المضارع، أي: أن المروق من الدين والخروج عن حد طاعة الله ورسوله دائم ما دامت الحياة، يخرج باستمرار في كل زمان ومكان ممن انتسب إلى أمة النبي عليه الصلاة والسلام أقوام يهوون هوى، فيبين النبي عليه الصلاة والسلام أن هذا الخروج وأن هذا المروق من الملة إنما سببه اتباع الهوى، أو الجهل، أو اتباع الشبهات والمشتبهات في كتاب الله عز وجل، كما قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران:7] أي: من القرآن: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7].
أهل الإيمان لهم موقف من كتاب الله عز وجل يختلف تمام الاختلاف عن موقف أهل الأهواء والبدع والخصومات في الدين، وأصحاب الرأي الذين قدموا القياس على قول الله وقول الرسول، وعلى إجماع أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وإنه يخرج من أمتي أقوام يهوون هوى)، أي: يميلون وينحرفون عن الصراط المستقيم بسبب اتباعهم لأهوائهم، (تتاجرى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه)، الكلب: داء يصيب الإنسان إذا عضه الكلب، ألا ترون أن سم الكلب الزعاف يدخل في كل أجزاء بدن المعضوض؟ الأمر كذلك، وهكذا الأهواء إذا أطلق الإنسان لها العنان ولم يجاهد نفسه ويدفعها عنه ما استطاع تمكنت منه حتى دخلت في كل عرق ومفصل في جسده، ومن هذا المنطلق أحب الشيطان وأحب إبليس البدعة أكثر من حبه للكبائر والمعاصي؛ لأن صاحب الكبيرة ربما تاب منها، وصاحب المعصية الصغيرة ربما تاب منها، أما صاحب البدعة فإنه يتصور أنه على الحق، أو أنه لفرط اتباعه لهواه استقر ذلك في قلبه وألفه وصار عادة له، فلا يُمكن مِن ترك البدعة أو نبذها، ولذلك حذر أهل العلم من الوقوع في البدع أكثر من تحذيرهم من الوقوع في المعصية، وقالوا: المعاصي ثلاثة أنواع: الكفر بالله العظيم، ثم البدعة في الدين، ثم الوقوع في سائر المعاصي، فجعلوا البدعة والابتداع في الدين في منزلة وسط بين الشرك بالله وبين اقتراف الكبائر والصغائر؛ لخطورة الابتداع في الدين، ولعلم أهل السنة والجماعة من أهل العلم والمجتهدين بخطورة هذا الأمر.
قال: (تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى) وانظر إلى اللفظ (يتجارى)، أي: يدخل دخولاً شديداً في كل أجزاء الجسم حتى يتمكن من دمه ولحمه وعظمه وعقله وفكره وفؤاده، فلا يبقى أمامه مجال لأن يخرج منه وأن يدخل مرة ثانية في دائرة أهل السنة والجماعة.