الفريق الثاني أثبت كرامة الأولياء، ولكنه غالى فيها جداً فأثبتها وزيادة، وأنتم تعلمون أن البدعة في دين الله عز وجل كما تكون بالنقصان تكون كذلك بالزيادة، وشرع الله عز وجل منزه عن الزيادة والنقصان إلا ما جاء عن الله وعن رسوله وأجمع عليه أهل العلم، وهي أصول التشريع وأصول الديانة الثلاث: كتاب وسنة وإجماع، خاصة ما أجمع عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم؛ ولذلك أجمع الصحابة بغير خلاف بينهم على ثبوت كرامة الأولياء، كما أجمعوا على ثبوت المعجزات لجميع الأنبياء والمرسلين.
ولكن الخلاف وقع بعد زمن الصحابة رضي الله عنهم على يد المعتزلة، ثم على يد المتصوفة، فالصوفية قالوا: الكرامة ثابتة للأولياء والصالحين، لكن الولي عندهم أحياناً يكون إنساناً مجنوناً أو مخبولاً أو لا عقل له أو سفيهاً أو طريداً أو إنساناً قد ترك الأوامر وارتكب النواهي، أو أنه يفعل الفواحش بحجة أن العامة يرونها فواحش في الظاهر وهي في حقيقة الأمر طاعات.
هكذا يظنون، حتى إن أحدهم -كما في طبقات الشعراني - كان ينزو على أنثى الحمير، فإذا أنكر عليه العامة ضحك منهم واستهزأ وسخر؛ وقال: لأنكم ترون ما لم أفعله! فهو فعل طاعة كما يزعم، وإن العامة رأوا بأعينهم فعل الفاحشة مع الدواب رؤية ظاهرة، فهو يسخر منهم باعتبار أن ما قد رأوه لم يفعله حقيقة، فالعامة أهل الظاهر، وهم -أي: الصوفية- أهل الباطن، وهكذا جعلوا للشرع ظاهراً وباطناً، خلافاً لمنهج النبي عليه الصلاة والسلام، وقالوا: بأن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء صلوات ربي وسلامه عليه.
قال ابن تيمية: وغير واحد من السلف: وهذا كفر بإجماع، وقال ابن القيم: وهذا كفر صريح، وقال ابن قتيبة: وهذا صريح الكفر وغير ذلك من أقوالهم التي أجمعوا عليها؛ لأن الإجماع منعقد أن خير الخلق هم الأنبياء والمرسلون، وخير هؤلاء هم أولو العزم من الرسل، وخير أولي العزم هو نبينا عليه الصلاة والسلام.
فإذا انعقد إجماع العقلاء -فضلاً عن إجماع الموحدين والمسلمين عامة- على أن خير الخلق قاطبة هو نبينا عليه الصلاة والسلام فكيف يقبل قول المتصوفة: خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء؟ فهذا كلام هو عين الكفر، ومن قال بذلك كفر وخرج من ملة الإسلام.
ولذلك تجد عند الصوفية كلاماً لا حقيقة له ولا واقع له في كلام أهل السنة والجماعة، تجدهم يقولون: الغوث والقطب والأوتاد والأقطاب، وغير ذلك من هذه الألفاظ الضخمة الفضفاضة، التي تزعج أسماع السامعين، فيضطر الواحد آسفاً أن يحترم هذه الألقاب، ولا يرد على صاحب هذه الأقوال.
والحقيقة أننا لو بحثنا في القرون الخيرية لما وجدنا شيئاً من هذه الأقطاب في كتبهم ولا في مصنفاتهم إلا على سبيل المدح لمن علم صلاحه وحسن عبادته، لكن من أقطاب هؤلاء الصوفية الآن من كان لا يغتسل إلا في كل أربعين يوماً مرة، ومن يترك الصلاة والصيام والزكاة والحج، ويقول: إنني قد بلغت مرحلة اليقين، التي هي في قول الله عز وجل: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، قالوا: واليقين هو: درجة إيمانية في القلب تسقط معها التكاليف، فيكون هذا هو خاتم الأولياء، أو يكون من أكبر مريدي هؤلاء الأولياء، فإذا بلغ هذه المنزلة سقطت عنه التكاليف، وهذا اتهام للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يسقط عنه شيء مما شرعه الله عز وجل عليه وعلى أمته حتى لقي الله عز وجل، وقد طعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في الصلاة، فلما أغشي عليه ذكروه بقولهم له: الصلاة يا أمير المؤمنين! قال: لست أميراً للمؤمنين، ثم يقول: نعم.
الصلاة الصلاة، لا حظ في الإسلام لمن لا حظ له في الصلاة، وغير ذلك الكثير والكثير من الآيات والأحاديث التي دلت على عدم سقوط التكاليف مطلقاً حتى يلقى العبد الله عز وجل، فكيف يزعم هؤلاء المهرجون أن التكاليف تسقط عن العبد إذا بلغ مرتبة الإيمان أو اليقين؟ هذا كلام لا يقبله أحد، حتى اليهود والنصارى ومشركو العرب لا يقبلون هذا الكلام، فالصوفية وقعوا فيما لم يقع فيه أهل الجاهلية الأولى عياذاً بالله، فهذه المصطلحات التي يدندنون حولها ويلتفون حولها ويقدسون أشخاصها وأربابها لم تكن معلومة لدى سلف الأمة.