المرتبة الأولى: مرتبة العلم، أي: إثبات العلم الأولي الأزلي لله عز وجل، تظاهرت على ذلك الأدلة من كتاب الله عز وجل ومن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا أمر لا يخفى على أحد، ومنكر ذلك كافر خارج عن ملة الإسلام؛ لأن الله عز وجل أثبت العلم لنفسه في غيرما آية، فالله عز وجل على كل شيء قدير وبكل شيء عليم، وأحاط بكل شيء علماً، قال الله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:59]، وقال: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12]، وقال الله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:282]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء:32]، وقال تعالى: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر:7] وغير ذلك من الآيات كثير، ومن الأحاديث كثير وكثير في إثبات علم الله عز وجل.
فلا يحل لأحد أن ينفي علم الله عز وجل عنه، فالعلم الأزلي هو أن الله تعالى علم قبل أن يخلق الخلق ما هم عاملون وما هم إليه صائرون؛ ولذلك قال حميد بن عبد الرحمن الحميري: حججت أنا وصاحب لي، فلما قدمنا المدينة سألنا عبد الله بن عمر قلنا: يا أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا بالعراق أو بالبصرة أناس يتقفرون العلم -وفي رواية يتفقرون العلم- يترفعون فيه ويطلبون دقائق المسائل منه، يقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف، أي: مستأنف.
وهذا يعني: أن الله لا يعلم الفعل إلا بعد أن يقع، أما قبل وقوعه فإن الله لا يعلمه، فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أوقد فعلوها؟ إذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني.
قال الإمام النووي: وهذا يعني: أنهم كفار؛ لأنهم أنكروا ما هو معلوم من دين الله عز وجل ومن صفات الله وأسمائه بالضرورة، ومن أنكر شيئاً ثابتاً معلوماً من الدين بالضرورة فإنه كافر بالله العظيم، إلا أن يكون حديث عهد بإسلام أو في بلد ليس يدار فيه العلم بالليل والنهار، أو ليس بإمكانه أن يطلبه، فإذا أنكر المرء معلوماً من الدين بالضرورة أو ما هو واجب لله تعالى ولا يخفى على صبيان المسلمين فإنه يكفر بذلك ويخرج عن ملة الإسلام.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذه المرتبة والمرتبة التي تليها -وهي مرتبة كتابة مقادير الخلائق- من أنكرهما كفر.
قال: وقد انقرض هؤلاء، فلم يبق إلا من ينازع في بقية مراتب القدر، أما هاتان المرتبتان -وهما العلم والكتابة- فقد هلك من كان ينكرهما مع الهالكين في أول الزمن، والعجيب أننا نرى في هذا الزمان من يتبجح بإنكار العلم والكتابة مع انتشار وذيوع الأدلة في الكتاب والسنة.
فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فهذه المرتبة أعظم مراتب القدر، مرتبة أن الله عز وجل علم كل شيء قبل أن يخلق الخلق، وعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، فعلم الله عز وجل العبد وعمله، وكيف يعمله، ومتى يعمله.
سئل علي بن أبي طالب عن القدر ما هو؟ قال: انظر إلى هذه.
فنظر إلى السبابة أو الوسطى أو الإبهام فأدخلها في لسانه وبلها من ريقه، ثم طبع بها في كفه اليسرى وقال: أؤمن أن الله تعالى علم أزلاً أن علي بن أبي طالب سيفعل هذا في هذا التوقيت وبهذه الكيفية.
انظروا إلى إيمان الصحابة بأن الله تعالى علم كل شيء كان وسيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون سبحانه وتعالى.
فالكتاب والسنة والعقل تدل على أن الله تعالى عالم بما الخلق عاملون بعلم أزلي، قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، وهو سبحانه وتعالى الموصوف بالعلم أزلاً وأبداً، أزلاً احترازاً من الجهل، وأبداً احترازاً من النسيان؛ ولذلك أنت موصوف بالعلم، لكن ليس أزلاً ولا أبداً؛ لأنك قبل أن تكون عالماً كنت جاهلاً، وبعد أن صرت عالماً سيذهب هذا العلم منك لكبر السن، أو بالنسيان، أو ضعف العقل، أو آفة تطرأ على عقلك.
فالله عز وجل متصف بصفات الكمال والجلال، خلافاً لك يا ابن آدم! فأنت متصف بصفات العجز والنقص، فإن كنت لست تعلم فالله عز وجل يعلم، وشتان بين علمك وعلم الله عز وجل، فعلم الله تعالى أزلي أبدي، وأنت لست كذلك.
علم الله تعالى جميع أحوال عباده من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال، كما قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يؤمر الملك بكتب أربع؛ بكتب رزقه وأجله وعمله، وشقي أو سعيد)، أمر الله تعالى الذي ملك الأرحام أن يكتب هذا والطفل لا يزال في مراحله الأولى، أليس الله عز وجل هو اللطيف الخبير؟ بلى، لابد أن