إن القدر منه ما هو خير، ومنه ما هو شر، ويجب الإيمان بالقدر بنوعيه.
أما قوله عليه الصلاة والسلام: (والشر ليس إليه) أي: ليس إلى الله عز وجل، هذا باعتبار المقدور لا باعتبار القدر، فالشر في القدر ليس باعتبار تقدير الله عز وجل له، لكن باعتبار المقدور، فلدينا قدر ولدينا مقدور، كما أن هناك خلقاً ومخلوقاً وإرادة ومراداً، فاعتبار تقدير الله عز وجل لهذا الفعل ليس شراً محضاً، وكل ما يراه الناس شراً ففيه وجه من وجوه الخير، أنت تتعاطى الدواء المر وهو بالنسبة لك شر، ومع هذا تتعاطاه لأنك تعلم أن هذا الدواء سبب للشفاء، فأنت تسلك الشفاء وإن كان الطريق إليه مراً، الله عز وجل أذن في وقوع الزنا مع أنه قد نهى عنه، وبين في كتابه كما بين رسوله في سنته أنه لا يحب ذلك ولا يرضاه: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7]، وأذن في وقوعه لحكمة عظيمة جداً.
إذاً: كل أمر في الكون من خير أو شر بحكمة الله عز وجل، فمن الحكم ما أطلعنا الله عز وجل عليها، ومن الحكم ما استأثر بها في علم الغيب عنده، فلو أننا أخذنا مثالاً كالقتل فإنه بالنسبة إلى الناظر شر محض مع أنه ليس كذلك، فالقتل يكفر الله عز وجل به ذنوب المقتول، كما أن القاتل لو تاب من فعلته تاب الله عز وجل عليه، فاستشعر رحمة الله، وإذا أقيم عليه الحد على ملأ من الناس كان هذا جديراً بأن يفكر كل إنسان أنه لو فعل فِعل فلان لفعل به مثلما نزل به من العذاب وإقامة الحد، فكان هذا أعظم رادع لكل من سولت له نفسه أن يرتكب ما يستوجب حداً من حدود الله عز وجل، فالزاني يفكر في العقوبة قبل أن يفكر في الزنا، والقاتل يفكر في العقوبة قبل أن يفكر في القتل، وشارب الخمر يفكر في العقوبة قبل أن يفكر في الشرب وهكذا في سائر المعاصي والذنوب.
ولذلك لما ارتفعت الحدود هاجت البشرية في أوحال المعصية، فلا تكاد تجد إنساناً يعرف المعروف أو ينكر المنكر؛ لأنه اطمأن جانب العقوبة، فانطلق في أوحال المعصية وهو مطمئن أنه لا عقاب يقع عليه من أحد، فلما كان الأمر كذلك وارتفع شرع الله عز وجل من قلوب الخلق استحقوا الذل والمهانة على أيدي شر الخليقة وهم اليهود، الذين يسومون المسلمين بالليل والنهار سوء العذاب وسوء الأدب، وأنزلوا بهم النكال، والبعض يقول: لا نكال ولا عذاب ولا إهانة، فهذا شر ممن يعلم يقيناً أن النكال والخسف واقعان في الأمة، فهذا مسخ قلبه تماماً، وشر البلية أنه لا يعلم ذلك، وهذا أيضاً من قدر الله عز وجل، ومن سننه الكونية في الخلق أنهم إذا فرطوا في شرعه واستغنوا عن الله عز وجل جعلت أمور المسلمين ومقاليدهم وزمامهم بيد غير الله عز وجل، فيلهثون خلفهم بالليل والنهار طلباً للمصلحة ودفعاً للمضرة، مع أن الذي يملك ذلك هو الله عز وجل وحده، فهذا باب عظيم من أبواب القدر.
أيها السياسيون! تقولون: لو رفعت راية الجهاد ضد اليهود فإننا مغلوبون مقهورون لا محالة! هذا سوء ظن بالله عز وجل، الله عز وجل وعد عباده الصالحين بالنصر والتمكين في الأرض، وذلك إن حققوا شرط الصلاح، وحققوا شرط التقوى.
فبدلاً من أن ندندن أن المعركة لصالح اليهود، والكرة على المسلمين ينبغي -بل يجب علينا وجوباً شرعياً أكيداً- أن نشغل أنفسنا بأسباب الهزيمة النفسية، وأن نوقن أن النصر والتمكين لا محالة إنما يكون للمسلمين الصالحين القانتين المؤمنين الموحدين، فنشغل أنفسنا بما أوجب الله عز وجل علينا.
قال الله عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:41]، فبين الله عز وجل أن الفساد واقع والذي يباشره هم العباد، هم الذين يفسدون في الأرض والبر والبحر والجو، وأن ذلك لا يكون إلا بمشيئة الله وإرادته الكونية القدرية، ومع ذلك فإن لظهور هذا الفساد حكمة عظيمة: ((لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا))، ليكفر عنهم بعض ما ارتكبوا من ذنوب وآثام.