إن كثيراً من أئمة الكلام الذين تأثروا بفلسفة الغرب ومذهب المتكلمين منهم من خدم دين الله عز وجل، كما أن الله تعالى منَّ على بعضهم بأن ترك مذهبه الفاسد في صفات الله عز وجل، ورجع إلى عقيدة وكلام أهل السنة والجماعة أخيراً، منهم فخر الدين الرازي إمام كبير مشهور، وكان من أئمة الاعتزال، وكان ممن يؤول الكلم عن مواضعه.
قال في توبته: نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال فأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا لماذا؟ لأنه قضى حياته كلها في جمع أقوال من سبقوه من أهل الكلام، وترك النص جانباً؛ لأنه اعتقد أن هذا النص ليس مراداً على ظاهره؛ ولذلك بانت حسرته وندامته في هذه الأبيات التي كتبها.
ثم قال: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، فقال: اقرأ في الإثبات، -أي: في باب إثبات الصفات- قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10] أي: للدلالة على العلو والارتفاع: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]، واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، واقرأ فيه كذلك: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]، واقرأ فيه كذلك: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، ثم قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.
وقد صرح غير واحد من الخلف بعودتهم إلى مذهب السلف كـ أبي الحسن الأشعري الذي انخلع من أشعريته وتأويله وصرفه النص عن ظاهره، وقال: إنما أنخلع من عقيدتي ومما قلت آنفاً، كما ينخلع هذا السيف من غمده، وأقول بقول أحمد - أي: وأقول بقول أحمد بن حنبل - فأنا على عقيدته، فصنف بعد ذلك كتباً في عقيدة أهل السنة على رأسها كتاب له اسمه الإبانة في أصول الديانة؛ ليثبت رجوعه إلى عقيدة أهل السنة والجماعة وإلى انتهاج مذهب أحمد بن حنبل في أسماء الله وصفاته وغير ذلك.
وكذلك أبو المعالي الجويني والشهرستاني وغيرهم رجعوا عن أقوالهم.
قال الجويني: يا أصحابنا! لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به.
أي: لا تشتغل بالفلسفة ولا تحكم بالعقل؛ لأن سبب انحراف أهل الضلال في باب الأسماء والصفات أمور: منها: أنهم جعلوا العقل حاكماً على النقل، فقدموا العقل على النقل فضلوا؛ لأن العقول قاصرة عن إدراك حقيقة الذات، وبالتالي فهي قاصرة عن إدراك حقيقة الصفة، فلما حكموا عقولهم وجعلوا النص تابعاً للعقل زلت أقدامهم بعد ثبوتها إن كانت ثابتة.
الأمر الثاني: أنهم جهلوا طريقة السلف وافتروا عليهم بنسبة التفويض إليهم، وهذا منكر وضلال، جمع بين الجهل والكذب والافتراء.
فقال هنا: ولو علمت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به، وقال عند موته: لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، أي: تركت علماء السنة وما قالوا به، ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لـ ابن الجويني، وهأنذا أموت على عقيدة أمي! بعد هذا العمر الطويل في الكلام وفي الفلسفة وغيرها، يموت على عقيدة أمه التي لا تعرف شيئاً، فعقيدتها في الله وافقت بفطرتها ما جاء في كتاب الله وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
وقال الشهرستاني: لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم ثم قال: فلم أجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم.
قال الشافعي: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام والفلسفة.
وقال أيضاً: لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت أن مسلماً يقوله، ولأن يبتلى العقل بكل ما نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله خير له من أن يبتلى بالكلام.
هذا ملخص وجيز جداً لوسطية أهل السنة والجماعة بين فرق الأمة فيما يتعلق بأسماء الله تعالى وصفاته، سطر ذلك لنا شيخ الإسلام ابن القيم في نونيته وقال: والأول التنزيه للرحمن عن وصف العيوب وكل ذي نقصان كالموت والإعياء والتعب الذي ينفي اقتدار الخالق المنان والنوم والسنة التي هي أصله وعزوب شيء عنه في الأكوان وكذلك العبث الذي تنفيه حكمتـ ـه وحمد الله ذي الاتقان وكذاك ترك الخلق إهمالاً سدى لا يبعثون إلى معادٍ ثان كلا ولا أمر ولا نهي عليـ ـهم من إله قادر ديان وكذاك ظلم عباده وهو الغني فما له والظلم للإنسان وكذاك غفلته تعالى وهو علا م الغيوب فظاهر البطلان وكذلك النس