أما العصمة فيما يتعلق بالتبليغ أو بتلقي الوحي عن الله عز وجل فإنه لا خلاف بين أهل السنة والجماعة أن الأنبياء والمرسلين معصومون في هذا الباب، كما أنهم معصومون بعد بعثتهم من اقتراف الكبائر، ووقع نزاع فيما يتعلق بارتكابهم الكبائر قبل بعثتهم، والراجح: أنهم لم يرتكبوا كبيرة قبل البعثة، فهذان بابان نثبت فيهما العصمة المطلقة للأنبياء والمرسلين فيما يتعلق بتلقي الوحي عن الله عز وجل، وأنهم لا يخطئون شيئاً منه، ولا ينسون شيئاً من الوحي إلا أن يشاء الله عز وجل أن ينسي أحد أنبيائه شيئاً قد أوحى به إليه، وهو الذي يعبر عنه أهل العلم بالنسخ، أي: لا يعمل به، وإنما يستعيض الله عز وجل عنه لأمة نبيه بشيء قد أراده لهم آنفاً، وليس في هذا أن الله تعالى قد بدا له ما لم يكن قد علم آنفاً، وإنما هي مشيئته سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64].
إذاً: الأنبياء والمرسلون معصومون في باب التلقي عن الله عز وجل، كما أنهم معصومون في التبليغ عن الله عز وجل إلى الخلق، فهم يتلقون الوحي بغير زيادة ولا نقصان، ويبلغون الوحي إلى أممهم بغير زيادة ولا نقصان، وهذا باب عظيم جداً لا ينبغي الخطأ فيه؛ لأن الخطأ فيه ينافي مقصود الرسالات والنبوات، وهذه عقيدة مسلمة عند الناس كافة إلا ما كان من أمر اليهود والنصارى عليهم لعنة الله عز وجل، وسيأتي ذكر موقفهم من أنبياء الله ورسله.
اسمع إلى ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله في كتابه العظيم مجموع الفتاوى حيث قال: إن الأنبياء صلوات الله عليهم معصومون فيما يخبرون به عن الله سبحانه، وفي تبليغ رسالته باتفاق الأمة.
أي: هذا أمر مجمع عليه ولا خلاف فيه، ولهذا وجب الإيمان بكل ما جاء به الأنبياء والمرسلون.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كذلك: النبي صلى الله عليه وسلم معصوم، فلا يجوز أن يصدر عنه خبران متناقضان في الحقيقة، ولا أمران متناقضان في الحقيقة إلا وأحدهما ناسخ والآخر منسوخ، والله هو الذي تولى حفظ الذكر؛ لأن ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة هو هدى الله الذي أنزله على رسوله، وبه يعرف سبيله، وهو حجته على عباده، فلو وقع فيه ضلال لم يبين لسقطت حجة الله في ذلك، وذهب هداه، وعمي السبيل؛ إذ ليس بعد هذا النبي نبي آخر ينتظر ليبين للناس ما اختلفوا فيه، بل هذا هو رسول آخر الزمان وأمته خير الأمم، ولذا لا يزال فيها طائفة قائمة على الحق بإذن الله، لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى تقوم الساعة، وربما وقع الخلاف بين هذه الطائفة، لكن الحق في عمومه لا يخفى على عموم الأمة في وقت من الأوقات ولا في زمن من الأزمنة.
فبعد أن اتفقت الأمة على أن الرسل معصومون في تحمل الرسالة، فلا ينسون شيئاً مما أوحاه الله تعالى إليهم إلا شيئاً قد نسخ، وقد تكفل الله لرسوله بأن يقرئه القرآن فلا ينسى منه شيئاً، كما في قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى:6 - 7]، وتكفل له كذلك بأن يجمعه في صدره؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام في حين تلقي الوحي عن جبريل كان يردد الوحي قبل أن ينصرف جبريل مخافة أن ينسى منه شيئاً، فطمأنه الله عز وجل بأنه لن يضيع منه شيء، وأنه سيثبته في قلبه، قال: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:16 - 18]، أي: فاتبع قراءته وتلاوته.
كذلك الأنبياء والرسل معصومون في باب التبليغ، فهم لا يكتمون شيئاً مما أوحاه الله إليهم؛ لأن الكتمان خيانة، والخيانة نقص بشري تنزه عنه الأنبياء والمرسلون، ولذلك عاتب الله تعالى كثيراً من أنبيائه على بعض اللمم الذي صدر منهم، ومع هذا ما أخفى الله تعالى وما أخفى نبيه عليه الصلاة والسلام ذلك اللوم وذلك العتاب، بل ذكره النبي عليه الصلاة والسلام وبلغه عن ربه بكل أمانة؛ لأنه الصادق المصدوق صلوات ربي وسلامه عليه.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67]، وقال كذلك: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44 - 46]، فلما لم يأخذ منه باليمين، ولم يقطع منه الوتين -أي: الحلقوم- تبين أنه عليه الصلاة والسلام لم يتقول على الله عز وجل بقول قط لا كبير ولا صغير، وإنما بلغ عن ربه بمنتهى الأمانة، حتى الذي عاتبه فيه ربه إنما نقله إلينا على صورة العتاب الذي عاتبه الله تعالى فيها ولامه.