الموضع الذي خالف فيه الجمهور، أو أن يكون غير ذلك، ولكلٍّ حكم. فإن كان هذا المتكلم فصيحًا في جميع ما قال لم يُؤثر عنه لحن، ولم يُعهد عليه خطأ، وكان الكلام الذي انفرد به مما يقبله القياس اللغوي؛ فحكمه حينئذٍ الحكم بصحته، لقول ابن جني الذي نقله السيوطي: "فإن الأولى في ذلك أن يُحسن الظن به -أي: بالمتكلم- ولا يُحمل على فساده"، وقد يعترض هذا القول متعرض فيقول: إن تفرُّد متكلم واحد بما يُخالف ما عليه جمهور العربي فيه ارتجال لغة لنفسه غير معهودة، ولا يجوز ذلك، فكيف يمكن قبوله. وقد افترض ابن جني هذا الاعتراض، وأجاب عنه بأن تفرُّد متكلم واحد بما يُخالف ما عليه الجمهور ليس ارتجالًا للغة، وإنما يُمكن أن يكون ذلك وقع إليه من لغة قديمة طال عهدها، وعفى رسمها، ولم يصل إلينا مما قالته العرب إلا أقلُّه؛ فقد يكون هذا الفصيح المتفرّد بالكلام قد وصل إليه من لغات العرب ما لم يصل إلى غيره من العرب، وإن كان المتكلم المخالف للجماعة قد عَرف الناس لحنه، وعهدوا منه فساد كلامه؛ فحكمه أن يُردَّ القول الذي تفرد به، وألا يُسمع منه.
يقول ابن جني: "هذا هو الوجه، وعليه ينبغي أن يكون العمل، فإن قيل: ولم لا يكون قوله الذي تفرَّد به منقولًا عن لغة أخرى لم تصل إلى غيره، كما قيل في حال من عُرفت فصاحته؟
أجيب بأن هناك فرقًا بين من عُرفت فصاحته ومن عُرف فساد قوله، فإن من عرفت فصاحته كان حسن الظن به أولى، فقُبل ما تفرَّد به؛ لاحتمال أنه قد وصل إليه من لغة أخرى. أما من عرف فساد قوله فإنه يُحكم بردِّ ما تفرد به؛ لأنا لو فتحنا هذا الباب ما رددنا خطأً أبدًا لمجيء ذلك الاحتمال فيه، ولأن المدار في الخطأ والصواب على الظواهر.