وفي كلام أبي البركات الأنباري إجمال يحتاج إلى تفصيل يكشفه ويبينه:
إن الأنباري قد رد مذهبًا من المذاهب وأبطل قولًا من الأقوال بالرجوع إلى الأصول التي استقرت عند النحويين؛ فقد استقر عند النحويين أن الرفع مقدم على غيره من أنواع الإعراب؛ فهو مقدم على النصب والجزم؛ فإذا كان الفعل المضارع مرفوعًا فإنه لا يجوز -عند الأنباري- أن يقال: إن رافعه هو تجرده من الناصب والجازم؛ لأن التعبير بالتجرد منهما يؤدي إلى سبقهما للرفع، ويؤدي إلى أن المضارع تجرد منهما بعد أن كان متلبسًا بهما، وهو خلاف الأصول؛ إذ إن الأصول شاهدة بتقدم الرفع عليهما.
ويدل على تقدم الرفع على النصب: أن الرفع حكم ثابت للفاعل -وهو عمدة- كما أن النصب حكم ثابت للمفعول به -وهو فضلة- فكما أن الفاعل قبل المفعول منزلة واعتبارًا؛ فكذلك الرفع يكون قبل النصب منزلة واعتبارًا.
ويدل على تقدم الرفع على الجزم: أن الرفع في الأصل صفة من صفات الأسماء، والجزم من صفات الأفعال، والأسماء متقدمة في الرتبة على الأفعال؛ فكذلك الرفع متقدم في الرتبة على الجزم.
وخلاصة ما سبق: أن الأصل هو تقدم الرفع على النصب والجزم؛ فمن قال: إن المضارع مرفوع بتجرده من الناصب والجازم فقد قدم النصب والجزم على الرفع، وبذلك يكون قد خالف أصلًا من أصول النحاة فلا يُقبل قوله ولا يرتضى مذهبه عند الأنباري.
وهذا القول الذي رده الأنباري واستدل على إبطاله بأصول هو رأي حذاق الكوفيين؛ يقول الفراء في (معاني القرآن) عند قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} (البقرة: 83): رُفعت {تَعْبُدُونَ} لأن دخول "أنْ" يصلح فيها؛ فلما حذف الناصب رُفعت، انتهى.