ونعود إلى كلام ابن هشام حول قضية الأبيات الخمسين في كتاب سيبويه، فنذكر أن أول من أشار إليها هو أبو عمر الجرمي المتوفى سنة خمس وعشرين ومائتين من الهجرة في قوله: "نظرت في كتاب سيبويه فإذا فيه ألف وخمسون بيتًا، فأما الألف فقد عرفت أسماء قائليها فأثبتها، وأما الخمسون فلم أعرف أسماء قائليها" انتهى.

وقال أبو جعفر النحاس في (مقدمة شرح أبيات سيبويه): "جملة أبيات كتاب سيبويه ألف وخمسون بيتًا منها خمسون غير معروفة" انتهى.

وينبغي أن نفرق بين أمرين: الجهل بالقائل، وعدم نسبة البيت إلى قائل معين، فإن سيبويه لم يكن يحرص على نسبة لجميع الأبيات إلى قائليها؛ لأنه كان واثقًا من صدق الذين أخذها عنهم، وكان واثقًا أيضًا من دقتهم وتثبتهم، فذكر كثيرًا من الشواهد دون اعتداد بذكر قائليها، وقد بلغ عدد الشواهد المنسوبة في (الكتاب) إلى قائليها سبعمائة وتسعة وثلاثين شاهدًا نصَّ فيها سيبويه على اسم الشاعر، كما أن سيبويه استشهد بأبيات أخرى لم يذكر أسماء الشعراء فيها، وإنما ذكر أسماء القبائل التي يُنسب إليها هؤلاء الشعراء، وعدد هذا القسم من الشواهد يبلغ سبعة وأربعين شاهدًا.

وإذا صح ما روي عن أبي عمر الجرمي كان المراد منه أن في الكتاب خمسين بيتًا قد جهل الجرمي نسبتها إلى قائليها، ولا يلزم منه أن يكون في الكتاب خمسون بيتًا يسقط الاحتجاج بها؛ لأن الواجب كون الشاهد معروف القائل حال الاستشهاد به، وطروُّ الجهالة بقائله بعد ذلك لا يضر في ثبوت ما ثبت به حال معرفته، فسيبويه ما استدلَّ إلا بما كان معروفًا مشهور القائل في ذلك الوقت، وما قامت حجته على مخالفيه بتلك الشواهد إلا وهي معروفة القائلين لديهم، مشهورة فيما بينهم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015