وهذا يدل على أن ما فعله في كتاب (الإنصاف) لم يكن غير استجابة لطبيعة الجدل والمناظرة، واضطرب المتأخرون في فهم هذا الأصل واعتمده، فابن هشام الأنصاري المتوفى سنة إحدى وستين وسبعمائة من الهجرة يذكر في تعاليقه على الألفية، كما ذكر السيوطي أنه لا يجوز الاحتجاج بكلام مجهول قائله، ويردُّ على الكوفيين استدلالهم بالأبيات الخمسة المجهولة القائل السابقة على جواز مد المقصور في الشعر، ويقول: "الجواب عندنا أنه لا يُعلم قائله فلا حجة فيه"، ثم يستنكر رفض الاحتجاج بالبيت المجهول قائله فيقول -يعني في شرحه المختصر لشواهد الألفية الشعرية المسمى (تخليص الشواهد وتلخيص والفوائد) -: طعن عبد الواحد الطواح في كتابه (بغية الآمل ومنية السائل) في الاستشهاد بقوله:

........................... ... لا تكثرن إني عسيت صائمًا

وقال: "هو بيت مجهول لم ينسبه الشراح إلى أحد، فسقط الاحتجاج به، ولو صح ما قاله لسقط الاحتجاج بخمسين بيتًا من كتاب سيبويه، فإن فيه ألف بيت قد عُرف قائلوها وخمسين مجهولة القائلين" انتهى كلام ابن هشام.

وهذا الاضطراب الذي وقع فيه ابن هشام يدل على ضعف هذا الأصل عنده، كما يدل على ضعفه أيضًا أن النحاة القدامى كانوا يستدلون بأقوال أعراب مجهولين لا يسمونهم، وينقلون عنهم أقوالًا نثرية، ولم يعترض ذلك معترض من النحاة.

ولا بد من الإشارة إلى أن العلماء كانوا يقبلون ما يذكره الثقة من النحاة كسيبويه، فإنهم قبلوا ما جاء في كتابه وإن لم يعلموا قائله؛ اعتمادًا على أنه ثقة، وفي ذلك يقول البغدادي في (خزانة الأدب الجزء): "الشاهد المجهول قائله وتتمته إن صدر عن ثقة يعتمد عليه؛ قبل، وإلا فلا، ولهذا كانت أبيات سيبويه أصح الشواهد، اعتمد عليها خلف بعد سلف، مع أن فيها أبيات عديدة جهل قائلوها وما عيب بها ناقلوها" انتهى.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015