فإن كان الحكم قد أوحي إليه به أفتاهم وأرشدهم، سواء أكان الوحي متلواً أم غير متلو، وإن لم ينزل عليه في ذلك وحي صريح نظر فيما أوحي إليه، فإن ظهر له حكم المسألة أخبرهم به وإلا انتظر الوحي الذي لا يلبث أن يأتيه عن قرب بحكم ما أشكل عليه.
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصدقة بالحمر الأهلية، فقال: «ما أُنزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الفاذة الجامعة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة 7 - 8]» (متفق عليه).
فهذا استدلال من الرسول صلى الله عليه وسلم بعموم الكتاب على مسألة جزئية، ومثله إنكاره على أبي بن كعب رضي الله عنه تأخره عن إجابة ندائه لاشتغاله بالصلاة، واستدلاله عليه بعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال 24] (أخرجه أحمد والترمذي)، ومثل هذه القصة ما حصل لأبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه (أخرجه البخاري).
ومن اجتهاداته فيما لم يرد فيه نص بخصوصه ولا بعمومه اجتهاده في أخذ الفداء من أسرى بدر، وعقد الصلح مع أهل مكة عام الحديبية، وسيأتي لهذا مزيد بيان في باب الاجتهاد إن شاء الله تعالى.
وأما الصحابة رضوان الله عليهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا يجتهدون في فهم النصوص من الكتاب والسنة، ويسأل بعضهم بعضا فيما خفي عليه، ويقيسون المسائل بما يشبهها، ولم يكونوا بحاجة إلى وضع قواعد تضبط استدلالهم مع حضور تلك القواعد في أذهان المجتهدين منهم، وكذلك كان الحال في عهد كبار التابعين مع ظهور التفاضل بينهم في العلم والفتوى.
وفي أواخر عهد التابعين بدأت المدارس الفقهية تظهر قدرا أكبر من التمايز