وينقسم المنطوق إلى خمسة أقسام: النص، والظاهر، والمؤول، ودلالة الاقتضاء، ودلالة الإشارة: أولاً: النص: وهو ما يفيد معنىً صريحاً لا يحتمل غيره، وبالمثل يتضح المعنى: قال تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة:196]، فهذا نص؛ لأنه لا يحتمل إلا معنىً واحداً، فهل يفهم أحد من الحضور غير ما يفهم الآخر؟ لا، بل الكل يفهم أن المقصود: إن ترك الحاج واجباً عليه أن يذبح فدية، فإن لم يستطع فيصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، تلك عشرة كاملة، فهذا كلام واضح لا يحتمل إلا وجهاً واحداً.
ثانياً: الظاهر: وهو ما يسبق إليه الفهم عند الإطلاق مع احتمال غيره احتمالاً مرجوحاً، مثال ذلك: يقول ربنا سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة:222]، فكلمة (الطهر) هنا لها معنيان: الأول: يطلق ويراد به الغسل أو الوضوء، وهذا هو المعنى الراجح، يقال: طهر وتطهر الرجل، أي: اغتسل أو توضأ، وهذا هو المعنى الذي ينصرف إلى الذهن عند سماع كلمة (الطهر)، والمعنى الآخر هو: انقطاع الدم، وهو مرجوح، وبالتالي فنقدم المعنى الراجح ونؤخر المعنى المرجوح، وحينئذٍ عندما نقول: الطهارة للمرأة عند الحيض أو من الحيض، فإن الاغتسال هو الذي ينصرف إلى الذهن، والمعنى المرجوح هو انقطاع الدم.
ثالثاً: المؤول: وهو ما حمل لفظه على المعنى المرجوح لدليل يمنع من إرادة المعنى الراجح، كقوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24]، فكلمة: (الجناح) حينما تطلق يفهم منها: الجناح الجارحة، لكن في هذه الآية لماذا صرفناها من الجناح بمعنى الجارحة إلى معنى التواضع والذل؟ لأنه يستحيل أن يكون للإنسان جناح، فكلمة (الجناح) في الآية صرفت عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن بها، وهذا هو التأويل المحمود.
لكن هناك التأويل المذموم: وهو صرف المعنى من المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح بغير دليل، كقول المؤولة: يد الله، أي: قدرة الله، فصرفوا اليد عن معناها الراجح إلى معناها المرجوح بغير دليل.
وعليه فالتأويل منه ما هو محمود ومنه ما هو مذموم، والتأويل المحمود: أن تصرف الكلمة من معناها الراجح إلى معناها المرجوح لدليل يقترن بها، كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9]، فظاهر الآية: أن الله أقام سداً حتى لا يروا، والمعنى المرجوح: أن الله صرف أعينهم عن الرؤية، وهذا هو المقصود، وليس المقصود أن الله أقام سداً؛ لأن الله قادر على أن ينزع الرؤية دون سد، لذلك صرفنا الكلمة عن معناها الراجح إلى معناها المرجوح لدليل، وهكذا حينما نقول: صلى النبي صلى الله عليه وسلم على شهداء أحد، فإن الشهيد -الصحيح أنه- لا يصلى عليه، فما معنى قوله: (صلى على شهداء أحد)؟ معناها: دعا لهم، والصلاة حينما تطلق يراد بها الصلاة المعروفة، فكونه صلى على شهداء أحد ظاهره أنه صلى عليهم صلاة الجنازة، فلماذا صرفناها عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح؟ صرفناها لدليل وهو أن الشهيد لا يصلى عليه.
إذاً: عند صرف الكلمة عن معناها الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يسمى هذا التأويل المحمود، ولغير دليل يسمى التأويل المذموم.
وخلاصة القول: أن دلالة الألفاظ على المعاني إما أن تكون بالمنطوق، وإما أن تكون بالمفهوم.
رابعاً: دلالة الاقتضاء، أي: أن صحة اللفظ قد تتوقف على كلمة مضمرة غير موجودة، لكنها مضمرة في السياق، فهذا يسمى دلالة الاقتضاء، أي: أن المقام يقتضي كلمة، لكن هذه الكلمة غير موجودة في السياق، مثال ذلك: يقول ربنا في سورة البقرة في آية الصيام: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، فإذا سافر رجل وصام هل عليه قضاء أم لا؟ ابن حزم الظاهري يقول: إن سافر وصام عليه القضاء؛ لأن الله يقول: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، فسواءً صام أو أفطر فلابد أن يقضي، فنقول: إن ابن حزم رحمه الله أهمل هنا دلالة الاقتضاء؛ لأن المقام يقتضي: فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر، فكلمة (فأفطر) موجودة هنا بدلالة الاقتضاء، أي: أن الكلام يقتضيها.
ومثل ذلك قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23]، فهنا كلمة مضمرة يقتضيها المقام وهي (الوطء والزواج)، وليس المعنى: أن أمك حرام عليك من كل الوجوه، وإنما المقام يقتضي: حرم عليكم وطء أمها