آتت هذه التربية العملية، والدعوة القولية من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آتت ثمارها في نفوس أصحابه فكان العفو سجيتهم.
ومن أمثلة عفو الصحابة -رضوان الله عليهم- عمن آذاهم ما جاء في الصحيح في حديث الإفك لما خاض أهل الإفك في عرض أمنا -رضي الله عنها عائشة- وزوج نبينا -صلى الله عليه وسلم- الطيبة بنت الطيب، وزوج الطيب الصديقة بنت الصديق، وزوج أصدق الخلق أجمعين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما خاضوا في عرضها، ونزلت البراءة: {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} (النور: 26) كان من الذين خاضوا في هذا الإفك مسطح بن أثاثة، وكان مسطح قريبًا لأبي بكر -رضي الله عنه- وكان فقيرًا، وكان أبو بكر -رضي الله عنه- ينفق عليه لفقره، وقرابته فلما نزلت آية البراءة، وخاض مسطح في عرض عائشة غضب أبو بكر على مسطح؛ لأنه لم يراع حرمة القرابة، ولم يراع فضل الصدقة؛ أولًا: هو قريب أبو بكر فيؤذيه ما يؤذي أبا بكر، وثانيًا: لأبي بكر فضل عليه فهو ينفق عليه.
فكان الواجب إن لم يراع حرمة القرابة أن يراعي الفضل، والإحسان فإن الله تعالى قال: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (الرحمن: 60) لكن مسطح خاض مع الخائضين في حديث الإفك، فلما نزلت البراءة غضب أبو بكر فقال: والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة ما قال، فأنزل الله تعالى قوله في حق أبي بكر: {وَلَا يَأْتَلِ أولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} (النور: 22) فسمى أبا بكر أولي الفضل فجعله جماعة جعل أبا بكر وحده هو أولي الفضل {وَلَا يَأْتَلِ ولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ والسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا ولِي الْقُرْبَى والْمَسَاكِينَ والْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولْيَعْفُوا ولْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (النور: 22) فقال أبو بكر: بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا.