سادسها: أن إخلاص الناس حالة البلاء، ورجوعه إلى باب الله تعالى أكثر من إخلاصه حال إقبال الدنيا عليه؛ فكانت الحكمة في هذا الابتلاء ذلك.
فتلك هي الحكم المستفادة من إخبار رب العالمين -سبحانه وتعالى- بوقوع البلاء بعباده قبل وقوعه؛ فإذا وقع البلاء انقسم الناس قسمين: جازعين، وصابرين فالجازع حصلت له المصيبتان فوات المحبوب، وهو وجود هذه المصيبة، وفوات ما هو أعظم منها، وهو الأجر بامتثال أمر الله بالصبر ففاز بالخسارة، والحرمان، ونقص ما معه من الإيمان، وفاته الصبر والرضا، والشكران، وحصل له السخط الدال على شدة النقصان، وأما من وفقه الله تعالى للصبر عند وجود هذه المصائب فحبس نفسه عن التسخط قولًا وفعلًا، واحتسب أجرها عند الله، وعلم أن ما يدركه من الأجر بصبره أعظم من المصيبة التي حصلت له، بل المصيبة تكون نعمة في حقه؛ لأنها صارت طريقًا لحصول ما هو خير له، وأنفع منها فقد امتثل أمر الله، وفاز بالثواب فلهذا قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}.
والصبر لغة: مصدر صبر يصبر، وهو مأخوذ من مادة صَبَرَ التي تدل على معان منها: الحبس، ولذلك قال الراغب في تعريف الصبر: الصبر هو حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع، أو عما يقتضيان حبسه عنه، حبس النفس عن الجزع، والفزع، والشكاية، والتسخط، والاعتراض بحيث يسلم المبتلى أمره لله سبحانه وتعالى، ويصل بعد الصبر إلى الرضا بقضاء الله، ويعلم أن اختيار الله -تبارك وتعالى- له خير من اختيار نفسه كما قال -عز وجل-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (البقرة: 216). وقال سبحانه: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا ويَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (النساء: 19)، ومن هذا الخير ما وعد الله -تبارك وتعالى- به الصابرين في قوله: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}