فدورة الشمس والقمر في فلك لا يحيدان عنه، وفي مواسم لا تتخلف كل ذلك يجري حسب سنن كونية سنها الله تعالى، وحسب مقادير قدرها عز وجل، وكذلك جميع الأحياء التي على الأرض جعل الله لها معايش مقدرة مقننة: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (الحجر: 19 - 21)، وقد علم الله تعالى الإنسان الحساب بتكرار الليل والنهار وتقدير الفصول الأربعة والأشهر القمرية، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} (الإسراء: 12)، وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} (الأنعام: 95) وقال: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} (الأنعام: 96).
ومما تقدم نجدُ أنّ القرآن ربّى عقل المسلم على مبدأين آخرين علميين غير مبدأي السلبية والغائية والتفكير الجدي المنطقي، وهما تكرار حوادث الكون حسب سنن سناها الله، وهو جل جلاله وحده يملك أن يغيرها إذا شاء، وهذا هو المبدأ الذي بُنيت عليه اليوم جميع القوانين العلمية، وهو أساس التفكير العلمي الذي به اكتشف الإنسان واخترع كل مظاهر الحضارة.
ثانيًا: أن سنن هذا الكون وجميع حوادثه وظواهره وكائناته من أصغر ذرّة إلى أكبر جرم، قد خلقها الله تعالى وسيرها، أو أنزلها بقدر معلوم لا يزيد ولا ينقص، ولا يتعدى شيء حدوده، فيختل توازنه ويخلّ بنظام غيره مما جاوره أو قابله، وتأثر وأثر فيه ومن هذه المبادئ التي استوحاها علماء المسلمين القرآن وارتقوا بها في العلوم الطبيعة استقت أوربا مبادئ التفكير العلمي، ووحدة قوانين العلم الحديث، ومناهج التفكير العلمي المنطقي، وهذا هو المبدأ الثاني من مبادئ المنطق العلمي إقامة الملاحظة العلمية على أساس القياس الكمي لا على أساس الوصف الكيفي. إنه المبدأ الذي يربي العقل على الدقة ليأخذ كل شيء بمقياس.