بالسيجارة التي أشعلها في محاضرته وهي تصرخ في الناس تقول: لا تصدقوه؛ لو كان صادقًا في قوله ما كذب في فعله.
إن سلوك الداعية هو الصورة الحية العملية لدعوته، يراها الناس في سكونه وحركته ووقوفه ومشيته وبكائه وضحكه، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب: 21)، إن القدوة العملية تُصيب من قلوب الناس أكثر مما تصيب الكلمة مهما كانت الكلمة طيبة وجيدة ومؤثرة، ولقد حدث ذلك مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أمر أصحابه بعد صلح الحديبية أن يتحلّلوا من العمرة بنحر الهدي وحلق الرءوس، يقول ابن القيم: "فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: ((قوموا فانحروا ثم احلقوا))، فوالله ما قام منهم رجل واحد حتى قال ثلاث مرات فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة -رضي الله عنها- فذكر ما لقي من الناس، فقالت: يا رسول الله أتحب ذلك، أتحب أن ينحر الناس هديهم ويحلقوا رءوسهم؟ قال: ((نعم)) قالت: فاخرج إليهم، ثم لا تكلم أحدًا كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك، فقام فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك؛ نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمّا".
حين نتأمل في هذه الواقعة نلاحظ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو من هو أمر أصحابه بالنحر ثم الحلق، فلم يستجب أحد، وكرّر الأمر عليهم ثلاثًا، ولم يفعل أحدٌ شيئًا مما دعاهم إليه، فلما أشارت إليه أم سلمة -رضي الله عنها- بما أشارت به؛ أن يخرج هو فينحر بدنه ويحلق رأسه، ورأوا ذلك منه -صلى الله عليه وسلم- بادروا إلى النحر والحلق؛ اقتضاءً بفعله -صلى الله عليه وسلم، وهكذا نرى أن القدوة العملية تؤثر في الناس مع الصمت أكثر مما