حتى إنه لأحب الناس إليّ"، وهكذا ترى أيها الداعية أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- تجرّد لدعوته ولم يشغل قلبه بأعراض الدنيا، ولم تتطلع نفسه الشريفة إلى شيء من متاعها، بل كان يبذلها بسخاء ويعطيها لمن يتألفهم؛ ليكسبهم أتباعًا لدعوته وحماة لشريعته، وكان يقول: ((ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها)) ولقد صار خلفاؤه الراشدون -رضي الله عنهم- سيرته، ونهجوا نهجه فجدوا في نشر الدعوة وأرسلوا الدعاة إلى الأمصار يحملون الهدى للناس، ولم يجمعوا شيئًا من الدنيا، وقد فُتحت عليهم وحُملت إليهم كنوزها، فعافوها وبذلوها طائعين في نصرة الدين وتأليف قلوب المستجدين، حتى مات أبو بكر -رضي الله عنه- ولم يزد ماله الذي كان عنده قبل الخلافة درهمًا، بل نقص، وتوفي عمر -رضي الله عنه- ولم يكن في بيته غير نفقته المعهودة، حقّا لقد تجردوا لدعوتهم وزهدوا في الدنيا وقد واتتهم مرغمة، حتى انتصر الإسلام وعز المسلمون.
إن الذين يتنافسون على لذيذ الطعام وشهيّ الشراب ببطن لا تشبع، ويتطلعون للقصور الشامخة والمراكب الفارهة بعينٍ لا تدمع من خشية الله، ويسابقون غيرهم إلى الزوجات الفاتنات ويتشوقون للبنين والبنات بقلوب لا تخشع- إن هؤلاء جميعًا لا يصلحون لحمل هذه الدعوة ولا يطيقون مواصلة السير إلى نهاية الشوط؛ لأن شرف العمل لهذه الدعوة لا يناله من يضنّ عليها بوقته، ويعطيها ساعة من فراغه، ولا يحصل عليها من يبخل عليها بماله ويبذل لها نافلته، ولا يحظى به من جعل الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه، وجعل الدعوة دبر أذنه وخلف ظهره.
إن شرف الدعوة إلى الله لا يناله إلا المتجردون لها، الباذلون أقصى الجهد في تبليغها، المقدمون لها على أولادهم وأزواجهم وبيعهم وشرائهم وأحسابهم