وأما من جهة المعنى، فمن وجوه:
أحدها: أن المعرفة تتعلق بذات الشيء والعلم يتعلق بأحوال الشيء، فتقول: عرفت أباك وعلمته صالحًا؛ ولذلك جاء الأمر في القرآن الكريم بالعلم دون المعرفة كقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} (محمد: 19) وقوله تعالى: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} (هود: 14) فالمعرفة تصور التصور، والعلم حضور أحوال الشيء وصفاته ونسبتها إليه؛ فالمعرفة نسبة التصور والعلم نسبة التصديق.
ثانيها: أن المعرفة في الغالب تكون لما غابَ عن القلب بعد إدراكه، فإذا أدركه قيل: عرفه، أو تكون لما وُصف بصفات قامت في نفسه، فإذا رآه وعلم أنه الموصوف بها قيل: عرفه، قال تعالى: {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} (يوسف: 58)، فالمعرفة نسبةُ الذكر في النفس، وهو حضور ما كان غائبًا عن الذاكر؛ ولهذا كان ضدّها الإنكار وضد العلم الجهل، قال الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} (النحل: 83)، ويقال: عرف الحق فأقرَّ به، وعرفه فأنكره.
ثالثها: أن المعرفة تُفيد تمييز المعروف عن غيره، والعلم يفيد تمييز ما يوصف به عن غيره.
رابعها: أنك إذا قلت: علمت محمدًا، لم تفد المخاطب شيئًا؛ لأنه ينتظر أن تخبره على أيِّ حال علمته، فإذا قلت: كريمًا أو شجاعًا حصلت له الفائدة، وإذا قلت: عرفت محمدًا، استفاد المخاطب أنك أثبته وميزته عن غيره، ولم يبقَ أن ينتظر شيئًا آخر.
خامسها: أن المعرفة علمٌ يعيّن الشيء مفصلًا عما سواه، بخلاف العلم فإنه قد يتعلق بالشيء مجموعًا ومفرقًا.