من الضلال والتمرد على الله؟ والداعي بدعوته إنما يسعى لتخليص المتمرِّدين العصاة من الهلاك والخسران المبين.
إنَّ الداعي الرحيم لا يكف عن دعوته ولا يسأم من الرد والإعراض؛ لأنه يعلم خطورة عاقبة المعرضين العصاة، وأنَّ إعراضهم بسبب جهلهم، فهو لا ينفكّ عن إقناعهم وإرشادهم، وقد ذكرنا في شفقة رسول -صلى الله عليه وسلم- المثل الذي ضربه لنفسه الكريمة مع أمته، وهكذا كان الأنبياء رحماء بمن أرسلوا إليهم، مشفقون عليهم من العذاب، قال تعالى حكايةً عن نوح -عليه السلام: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 1، فقوله -عليه السلام {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} لا يصدر إلّا عن قلب رحيم، وشفقة ظاهرة عليهم، وكذلك قوله -عليه السلام- وقد رموه بالضلالة {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ، أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 2، فجواب نوح -عليه السلام- مشحون بالرحمة والشفقة عليهم واللطف في مخاطبتهم، ولم يغضبه كلامهم؛ لأنهم قوم يجهلون؛ ولأن الداعي الرحيم لا يغضب لنفسه قط، وهكذا كان خُلُقُ رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم، فما كان يغضب لنفسه، وإنما يغضب إذا انتهكت حرمات الله، ثم في جواب نوح أنَّه ينصح لهم، أي: يُخْلِص في القول النافع المفيد لهم، بالرغم من قولهم الباطل فيه، ويبيِّن لهم أنه رسول من رب العالمين؛ ليعلموا أن ما يخبرهم به هو الحق الصريح الواجب قبوله، وفي قبوله رحمة بهم، دليل على ما كان في قلبه -عليه السلام- من عظيم الرحمة بقومه.
الرحمة تهوّن على الداعي ما يلقاه من الجهلاء:
563- والرحمة تهوّن على الداعي ما يلقاه من أصحاب الغفلة والجهالة؛ لأنه ينظر اليهم من مستوى عالٍ رفيع أوصله إليه إيمانُه وصلته بربه، ولذا فهو ينظر إليهم