فلا يجوز تخريب المزرعة، ولا الخروج منها على وجه الفرار؛ لأن الإنسان جاء إليها ليعمل الخير ويتزوَّد بزاد التقوى، ويفني عمره في ذلك، ولكن عليه أن لا ينسى هذه المهمة، فيجعل الدنيا مقصوده وغايته، وقد أرادها الله وسيلةً للآخرة وخادمةً لها لا مزاحمة لها، فإذا تعارضت مصلحته الدنيوية مع مصلحته الأخروية قدَّم الثانية على الأولى غير آسفٍ عليها؛ لأنه غير مغبون ولا خاصر في هذا التقديم؛ لأنَّ المصلحة الكبرى تقدم على الصغرى في نظر الإسلام وفي نظر العقلاء، ومصلحة الآخرة أكبر قطعًا من مصلحة الدنيا؛ لأنَّ تقييم المصلحة إنما يكون بقدرٍ من لذة وراحة ومنفعة من حيث الكم والكيف، وبقدر دوامها للإنسان، ولا شكَّ أن مصلحة الآخرة أعظم من مصلحة الدنيا من هاتين الناحيتين، ذلك أنَّ ما في الدنيا من لذائذ ومنافع وراحة لا يقاس بما في الآخرة كمًّا ولا كيفًا، فإنَّ لذائذ الدنيا مشوبة بالمنغِّصات وتافهة من حيث الكيف والكم، أما الآخرة فلذائذها خالصة من المنغصات والمكدرات، وفريدة من حيث نوعها وكيفيتها، وفيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وفيها رضوان الله ورؤية وجهه الكريم، والقرب منه في جنات النعيم، وكل هذه الأمور العظام لا يساوي اليسير منها كل نعيم الدنيا.
وأمَّا من حيث الدوام فإنَّ سعادة الآخرة ولذائذها دائمة غير منقطعة، بينما نعيم الدنيا ولذائذها منقطعة قطعًا، فهي لا تتجاوز عمر الإنسان، إذا فرضنا أنه يتنعَّم في عمره كله، وأية نسبة بين سعادة مقدَّرة بعمر الإنسان المتناهي، وسعادة الآخرة الدائمة لمدة غير متناهية؟ فالمسلم العاقل لا يمكن أن يؤثر الدنيا على الآخرة أبدًا؛ لأنَّ الشرع يأمر بتقديم الآخرة، والحساب يقتضي هذا التقديم، ومصلحة الإنسان تدعو إلى هذا التقديم، وهذا هو الحق، وماذ بعد الحق إلّا الضلال والجهل والخسران المبين.