إن الخطابة وإن كانت فنًّا من فنون الإنشاء، وكانت القواعدُ المتقدمة والشروط المقررةُ مطردةً فيها لا محالة، غيرَ أنَّ صاحبها لما كان أشدَّ اعتمادًا على البَداهة والارتجال منه على الكتابة، تعيَّن أن يُذكَر لها من الضوابط والشروط ما لا يجري مثله في عموم صناعة الإنشاء، كما كان للشعر من الضوابط ما يختصُّ به عن الإنشاء، وإن كان هو في الأصل فنًّا من أفانينه.
ولقد رأينا من المتقدِّمين ممن ألَّف في صناعة الإنشاء لم يُعَرِّجوا على ذكر ما هو من خصائص الخطابة؛ حتى إنك لتجد شيئًا من قواعدها في خلال مطوَّلات كتب المنطق، ولا تجد ذلك في كتب الأدب، غيرَ أنَّ المناطقة خَصَّوها بضَرْبٍ من ضروب الحُجَّة، وهو ما يتركَّب من قياسات مظنونةٍ أو محمولَةٍ على الصِّدق، وأما المعنيُّ بها عند علماء الأدب فهو شامل لجميع أقسام الحجة؛ إذ الخطيب قد يأتي بجميعها وإن كان الغالبُ عليه بيانَ القياسات المظنونة؛ إذ هو لا يتعرض للقطعيَّات إلا عند الاحتجاج بها، ولا يتعرض للشعر والسَّفْسَطَة إلا نادرًا؛ لئلا يعرِّضَ نفسه للتكذيب أو الاستخفاف.