تلك كانت دعوة هود - ويبدو أنها لم تكن مصحوبة بمعجزة خارقة. ربما لأن الطوفان كان قريبا منهم، وكان في ذاكرة القوم وعلى لسانهم، وقد ذكرهم به في سورة أخرى - فأما قومه فظنوا به الظنون ..
«قالُوا. يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ، وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ، وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ ... ».
إلى هذا الحد بلغ الانحراف في نفوسهم، إلى حد أن يظنوا أن هودا يهذي، لأن أحد آلهتهم المفتراة قد مسه بسوء، فأصيب بالهذيان! «يا هود ما جئتنا ببينة» ...
والتوحيد لا يحتاج إلى بينة، إنما يحتاج إلى التوجيه والتذكير، وإلى استجاشة منطق الفطرة، واستنباء الضمير.
«وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ» .. أي لمجرد أنك تقول بلا بينة ولا دليل!
«وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ» .. أي مستجيبين لك ومصدقين .. وما نعلل دعوتك إلا بأنك تهذي وقد أصابك أحد آلهتنا بسوء! وهنا لم يبق لهود إلا التحدي. وإلا التوجه إلى اللّه وحده والاعتماد عليه. وإلا الوعيد والإنذار الأخير للمكذبين. وإلا المفاصلة بينه وبين قومه ونفض يده من أمرهم إن أصروا على التكذيب: «قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ، وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ، فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ، وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ، وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً، إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ» ..
إنها انتفاضة التبرؤ من القوم - وقد كان منهم وكان أخاهم - وانتفاضة الخوف من البقاء فيهم وقد اتخذوا غير طريق اللّه طريقا. وانتفاضة المفاصلة بين حزبين لا يلتقيان على وشيجة وقد أنبتت بينهما وشيجة العقيدة.
وهو يشهد اللّه ربه على براءته من قومه الضالين وانعزاله عنهم وانفصاله منهم. ويشهدهم هم أنفسهم على هذه البراءة منهم في وجوههم كي لا تبقى في أنفسهم شبهة من نفوره وخوفه أن يكون منهم! وذلك كله مع عزة الإيمان واستعلائه. ومع ثقة الإيمان واطمئنانه!