فالدعوة به تبدأ والرسول وقومه من أمة واحدة تجمع بينه وبينها أواصر القربى والدم والنسب والعشيرة والأرض ... ثم تنتهي بالافتراق وتكوين أمتين مختلفتين من القوم الواحد .. أمة مسلمة وأمة مشركة ..
وبينهما فرقة ومفاصلة .. وعلى أساس هذه المفاصلة يتم وعد اللّه بنصر المؤمنين وإهلاك المشركين. ولا يجيء وعد اللّه بهذا ولا يتحقق إلا بعد أن تتم المفاصلة، وتتم المفارقة، وتتميز الصفوف، وينخلع النبي والمؤمنون معه من قومهم، ومن سابق روابطهم ووشائجهم معهم، ويخلعوا ولاءهم لقومهم ولقيادتهم السابقة، ويعطوا ولاءهم كله للّه ربهم ولقيادتهم المسلمة التي دعتهم إلى اللّه وإلى الدينونة له وحده وخلع الدينونة للعباد .. وعندئذ فقط - لا قبله - يتنزل عليهم نصر اللّه ..
«وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً» .. أرسلناه إليهم كما أرسلنا نوحا إلى قومه في القصة السابقة.
«قال: يا قوم» .. بهذا التودد، والتذكير بالأواصر التي تجمعهم، لعل ذلك يستثير مشاعرهم ويحقق اطمئنانهم إليه فيما يقول. فالرائد لا يكذب أهله، والناصح لا يغش قومه.
«قالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» .. القولة الواحدة التي جاء بها كل رسول وكانوا قد انحرفوا - كما أسلفنا - عن عبادة اللّه الواحد التي هبط بها المؤمنون مع نوح من السفينة. ولعل أول خطوة في هذا الانحراف كانت هي تعظيم ذكرى الفئة المؤمنة القليلة التي حملت في السفينة مع نوح! ثم تطور هذا التعظيم جيلا بعد جيل فإذا أرواحهم المقدسة تتمثل في أشجار وأحجار نافعة ثم تتطور هذه الأشياء فإذا هي معبودات، وإذا وراءها كهنة وسدنة يعبّدون الناس للعباد منهم باسم هذه المعبودات المدعاة - في صورة من صور الجاهلية الكثيرة. ذلك أن الانحراف خطوة واحدة عن نهج التوحيد المطلق. الذي لا يتجه بشعور التقديس لغير اللّه وحده ولا يدين بالعبودية إلا اللّه وحده .. الانحراف خطوة واحدة لا بد أن تتبعه مع الزمن خطوات وانحرافات لا يعلم مداها إلا اللّه.
على أية حال لقد كان قوم هود مشركين لا يدينون للّه وحده بالعبودية، فإذا هو يدعوهم تلك الدعوة التي جاء بها كل رسول: «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ». «إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ» ..