وكان إذا أنشد أزبد ووحش1 بثيابه وكان من أحسن الناس إنشادا، فلما فرغ منها قال رؤبة: هذه أم الرجز.
إلا أن هذا الصفاء بين الرجازيْنِ واعتراف رؤبة وإقراره بفضل أبي النجم ورضى هذا عن رؤبة لم يدم طويلا، فسرعان ما أهاج الشر بينهما غواة الرجز، فما لبثا أن فسد ما بينهما واشتدت المنافسة إلى الغاية. وأنت إذا أردت أن تستمع وتتسلى وتستفيد، فأَثِرْ خصومة أو منافسة، أو هِجْ شرا بين أديبين أو شاعرين أو عالمين، تجد متعة وطرافة تنعم بهما من حيث سقي الرجلان. هذا ما صنع قوم أبي النجم لما رأوا العجاج "أبا رؤبة وقريع أبي النجم" خرج محتفلا, عليه جبة خز وعمامة خز، على ناقة له قد أجاد رحلها حتى وقف بالمربد والناس مجتمعون, فأنشدهم قوله:
"قد جبر الدينَ الإلهُ فجبر"
فذكر فيها ربيعة قوم أبي النجم وهجاهم. فانطلق رجل من الناس من بكر بن وائل يشتد عدوا إلى أبي النجم في بيته، فقال له يستحثه وهو يلهث: "أنت جالس وهذا العجاج يهجونا بالمربد، قد اجتمع عليه الناس؟! " فتحرك أبو النجم وقال: "صف لي حاله وزيه الذي هو فيه" فوصف له, فقال: "ابغني جملا طحانا قد أكثر عليه من الهناء"2 فجاء إليه بجمل كله قروح وقطران، فأخذ أبو النجم سراويل له فجعل إحدى رجليه فيها واتزر بالأخرى وركب الجمل ودفع خطامه إلى من يقوده. فانطلق حتى أتى المربد وقد لحقه ما لا يحصى لما رأوا من الهيئة الغريبة، حتى دنا من العجاج في حلقته فقال لقائد جمله: اخلع خطامه، فخلعه