ولكن الوظيفة الأخيرة جد صعبة، وذلك بسبب تعدد وتنوع العوامل التاريخية التي تدخل في تكوين تلك الصورة، وهذه العوامل قد تكون ذات طبيعة عسكرية أو سياسية أو اقتصادية أو دينية أو ثقافية. فاللغة اللاتينية مثلا قد انتشرت نتيجة لغزو عسكري، وحنكة سياسية، ومهارة إدارية، ولكن بقاءها مؤخرا في مساحات واسعة كان مرده -في الأعم الأغلب- إلى عوامل دينية، حيث كانت اللغة اللاتينية قد أصبحت اللغة الرسمية للكنيسة المسيحية الغربية، وامتداد اللغة العربية كانت نتيجة لعالم الغزو العسكري المصحوب بالتوسع الديني، وقد أصبحت القشتالية Castilian هي اللهجة الغالبة في شبه الجزيرة الإسبانية نتيجة للدور العسكري الذي لعبه المتكلمون بها بعد إعادة فتحها على يد المور Moors. وإن التوسع اللاحق للقشتالية إلى مسافات بعيدة من العالم الجديد كان يرجع إلى الجهود الاستعمارية التي امتزجت بعوامل عسكرية ودينية واقتصادية، وقد حدث شيء مماثل بالنسبة للغة الإنجليزية، بالإضافة إلى الفعالية الكبيرة لعامل الامتصاص لمجموعة ضخمة من المهاجرين وأعقابهم، الذين كانوا يتكلمون عادة لغة أخرى غير الإنجليزية، وإن لهجة شمال فرنسا Francien بعد انتصارها في العصور الوسطى على لهجات أخرى أدبية مماثلة، نظرا لما تصادف من أنها اللهجة المحلية لباريس حيث البلاط الملكي، استطاعت مؤخرًا أن تفرض نفسها على مساحات واسعة من الأرض نتيجة قوة عسكرية واستعمارية من ناحية، وما تتمتع به من إغراء ثقافي من ناحية أخرى.
واستنتاجا من دروس الماضي ينبغي على عالم اللغة الجغرافي أن يقاوم أي زعم بأن المركز النسبي الحالي للغات العالم اليوم سوف يستمر، إن الصورة التي يجب أن تكون مائلة أمامه هي أن اللغة سريعة التطور، ولربما لم تكن هذه الصورة في أي يوم مضى أصدق منها الآن. وبينما يجب على اللغوي أن يصف موضوعيا