كل الدارسين لعلم اللغة دراسة وصفية أو تاريخية يجتهدون ليضعوا حدًا فاصلا بين اللغات واللهجات، وبين المستويات الاجتماعية والتعليمية المتنوعة للغة الواحدة المعينة، ولكنهم نادرًا ما يتبعون طريقا واقعيا في الإشارة إلى تلك الظواهر اللغوية، أو محاولة تفسيرها في ضوء أهميتها العملية، سواء للمجتمع أو للأفراد، وهذا راجع -في الأعم الأغلب- إلى سوء تقديرهم لما يشكل اتجاها علميا، وانحرافهم في اختيار الحقائق التي يمكن أن تعتبر أحكاما ذات قيمة.
إنه ليس حكمًا ذا قيمة أن تصف لغة ما بأنها تحتل مكانا عمليا عظيما أكثر من غيرها إذا أخذت في الاعتبار العوامل الموضوعية المحققة مثل عدد السكان، ومناطقهم السكنية وإنتاجيتهم، وليس حكما ذا قيمة كذلك أن تدعي أن لغة ما -في الوقت الحاضر- تفوق غيرها ثقافيا إذا كانت ثمرات الثقافة تتحقق بصورة واضحة في شكل نتاج عقلي وأدبي وعلمي، وأخيرا، فليس حكما ذا قيمة أن تدعي أن شكلا معينا من أشكال اللغة تسعمله الجماعة كلها، يجري على ألسنة الطبقة المثقفة, أن تدعي أنه أفضل من شكل آخر يتصف بالمحلية، ويستعمل بين طائفة من الأميين أو أنصاف الأميين.
ومن الطبيعي تحت ظروف معينة أن يكون الأبلغ استعمال اللغة الأكبر محلية أو الأقل ثقافة فبعثة تبشيرية إلى أدغال الأمازون نجد من الأفضل لها أن تستعمل لغة هندية قليلة الأهمية لا أن تستعمل لغة يستخدمها مئات الملايين من الأوربيين، وضابط البوليس في تعقبه للمجرمين يجد لغتهم الخاصة أنفع له من لغة المحامين والأطباء والأساتذة، ولكن هذه حالات استثنائية ويجب أن تعرض كما هي.
وإن وجود دعائم التوحد بشكل واسع وقوي بين جماعة ما ليبرز ما يسمى باللغة الوطنية national language وهذه اللغات الوطنية كانت في الأصل ظواهر صناعية تتكون في معظم الأحيان إما من لهجة معينة اختيرت لتقوم بوظيفة عامة، وإما من مجموعة من اللهجات طفت على السطح، أو حدث توفيق بينها كحل وسط. ويحدث هذا عادة استجابة لحاجة ملحة في التفاهم العام، وخصوصا لتيسير التبادل التجاري بين الأقاليم المتعددة، إن اللغة