يعتبر حديث الوجود إلى حد ما، وهو الآن يشق طريقه إلى الإمام نتيجة لاتساع دائرته العملية، إن وظيفته أن يصف بطريقة علمية وموضوعية توزيع اللغات في مناطق العالم المختلفة ليوضح أهميتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاستراتيجية والثقافية، وأن يدرس طرق تفاعل اللغات بعضها مع بعض، وكيفية تأثير العامل اللغوي على تطور الثقافة والفكر الوطنيين، وكمثال واحد، ربما يكفي أن نشير إلى توزيع اللغات السلافية وغير السلافية في جمهوريات الاتحاد السوفيتي وأهميتها النسبية، ودور اللغة الروسية باعتبارها اللغة المتسلطة، أو اللغة المشتركة.
وإن علم اللغة الجغرافي ليتناول إلى جانب النتاج الحديث حاصل العوامل والأحداث التاريخية، ومن أجل هذا فهو وثيق الصلة بعلم اللغة التاريخي، ومظاهر تطبيقه الحديثة تبدو -إلى حد كبير- وصفية جغرافية اجتماعية. إن أي لغة تملك عددا معينا من المتكلمين قل أو كثر, تتوزع في مناطق مختلفة من العالم ضاقت أو اتسعت إنها تستعمل في مجال الإنتاج وتوسيق البضائع وخلق القيم الثقافية، وهي تحمل -إلى جانب ذلك- نفوذًا سياسيًا وعسكريا في مناطق معينة، هذه العوامل تبرز القيمة العملية للغة، وتجعل منها موضوعًا واسعًا للدراسة، وهناك مجالات أخرى ثانوية لهذا الفرع، مثل دراسة استعمال اللغة في الطقوس، أو لأغراض دينية أخرى، ودراسة حالات فرضها على البلاد المستعمرة، أو التي كانت مستعمرة، وإمكان تغلبها على اللغات الأصلية، أو إحلالها محلها في مناطق متاخمة.
حقا إن كل هذه العوامل متغير ومؤقت ولا يوصف بالدوام، ولكن اللغة نفسها، ظاهرة متغيرة ومؤقتة، وخاضعة لقوانين التطور، من الممكن إذن أن يوصف علم اللغة الجغرافي بأنه التطبيق العملي الحديث لعلم اللغة، تماما كما تعتبر الهندسة تطبيقا عمليا لقوانين علم الطبيعة، وكما يعتبر الطب والجراحة تطبيقا عمليا لعلم وظائف الأعضاء، وعلم التشريح.
وبينما نجد علمي اللغة التاريخي والوصفي لا يظفران بغير اهتمام اللغوي المتخصص، يظفر علم اللغة الجغرافي باهتمام أي إنسان تتاح له أي فرصة للذهاب إلى خارج بلده، أو لإقامة اتصالات أجنبية، أو تشغله الحالة الدولية بوجه عام.