وفرحة اعتكاف رمضان لمن أراد أن يغتنمها فرصةُ الفرص ..
فإنه يخص العشر الأواخر من رمضان جوٌّ إيمانيٌّ عَبِق .. جوٌّ روحانيٌّ طَلْق .. فيها هدايا .. وفرائد وفوائد .. ونِعَم لا تحصى تحتاج إلى شكر ..
ولك في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوةٌ؛ فإن هذه الخَلوة فترة إعداد وتهيئة وتدريب لأحد عشر شهرًا قادمة.
قال بعض أصحاب التفاسير عند الكلام على خَلوة النبي - صلى الله عليه وسلم - في غار حراء كلامًا نفيسًا أنقله هنا بنصه تتأمله وتستفيد ما يمس قلبك منه قال رحمه الله:
"وكان اختياره - صلى الله عليه وسلم - لهذه العزلة طرفًا من تدبير الله له؛ ليُعِدَّه لما ينتظره من الأمر العظيم. ففي هذه العزلة كان يخلو إلى نفسه، وَيخْلُصَ من زحمة الحياة وشواغلها الصغيرة، ويُفَرَّغ لموحيات الكون، ودلائل الإبداع؛ وتسبح روحه مع روح الوجود؛ وتتعانق مع هذا الجمال وهذا الكمال؛ وتتعامل مع الحقيقة الكبرى، وتُمَرَّن على التعامل معها في إدراك وفَهْم.
ولابد لأيِّ روح يُراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهةً أخرى .. لابد لهذا الروح من خَلوة وعزلة بعض الوقت، وانقطاع عن شواغل الأرض، وضجة الحياة، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة.
لابد من فترة للتأمل والتدبر والتعامل مع الكون الكبير وحقائقه الطليقة.
فالاستغراق في واقع الحياة يجعل النفس تألفه وتستنيم له، فلا تحاول تغييره.
أما الانخلاع منه فترة، والانعزال عنه، والحياة في طلاقة كاملة من أسر الواقع الصغير، ومن الشواغل التافهة؛ فهو الذي يؤهل الروح الكبير لرؤية ما هو أكبر، ويدربه على الشعور بتكاهل ذاته بدون حاجة إلى عرف الناس، والاستمداد من مصدر آخر غير هذا العرف الشائع!